عرض عام
حتى الأربعينيات، كانت فرق الجالغي في بغداد، والتي تعزف المقام العراقي، تحظى بشهرة كبيرة في أكبر مدن العراق، حيث كانت تعزف في إحياء المناسبات المختلفة وبخاصة حفلات الزفاف والختان في المنازل الخاصة وفي المناسبات الدينية ولجمهور أكبر في المقاهي أو الملاهي الليلية المنتشرة في ذلك الحين. تم إنتاج وبيع التسجيلات على أقراص مصنوعة من الشيلاك (٧٨ دورة/الدقيقة) خلال هذه الفترة، وبثت المحطات الإذاعية الجديدة أغاني المقام، ومن ثم زادت شعبية المقام. بحسب الكاتب العراقي حسقيل قوجمان، كانت هذه العروض الموسيقية فعاليات اجتماعية وحدت من خلالها مختلف الطبقات الاجتماعية والأديان والإنتماءات العرقية مثل العرب والأكراد والتركمان والأرمن والمسلمين واليهود والمسيحيين.
فرق الجالغي البغدادي والموسيقى الشرقية
يوحي لفظ الجالغي البغدادي أيضاً بأن هذا النوع من الموسيقى كان معروف بالأساس في العاصمة العراقية بغداد كما كان عبارة عن فرقة موسيقية تدعم المغني. فعند أداء المقام العراقي، يُسمى المغني قارئ المقام، ويرافقه الجالغي البغدادي (فرقة بغداد) أو التخت الشرقي (فرقة الموسيقى الشرقية).
تصف شهرزاد قاسم حسن فرقة الجالغي البغدادي على النحو التالي:
" في العروض المدنية، يُرافق المقام العراقي الجالغي البغدادي (الفرقة البغدادية). وتتكون الفرقة من عازفي الآلات الموسيقية الآتية: السنطور والجوزة في صحبة طبلتين أو ثلاث: الطبلة، الدف الزنجاري والنقارة. وفي بعض الأحيان تُستبدل الطبلة المؤطرة بالنقارة. وكان الدور التقليدي لفرقة الجالغي هو توقع وقيادة أداء المغني."
على النقيض، تصف شهرزاد حسن التخت الشرقي بأنه جاء متأخراً حيث ظهر في العراق في عشرينيات القرن المنصرم وهو يمثل الفن العربي والموسيقى "الخفيفة" في مصر وسوريا، ويتألف من القانون، والناي والعود، إضافة إلى نوعين من الطبل.
الأدوات والتأثير
كقاعدة عامة، تتألف آلات الفرقة من العود المشابه للكمثرى والقانون ‒ وفي بعض الأحيان السنطور ‒ والكمان والطبل والدمبك و/أو الدف. من خلال نوع من تأثير الموسيقى المصرية التي كانت تُبث عبر المحطات الإذاعية المصرية منذ أوائل الثلاثينيات، أُضيف المزيد من الآلات و/أو تمت مضاعفتها.
في ٢٠١٣، سنحت للكاتب فرصة مقابلة خبير الموسيقى العراقية التقليدية البالغ من العمر ثمانين عاماً حسقيل قوجمان الذي عرف الكثير من الموسيقيين أثناء حياته في بغداد. وقد تذكر حسقيل قوجمان هذه الفرق على النحو التالي: في أواخر العشرينيات كانت الفرقة الموسيقية تتألف من عازفي الكمان والقانون والعود وعازفي الإيقاع. ولم يُدخل على هذه الآلات سوى التشيلو والناي في محطات البث. وقد انشغلت معظم الفرق بالتسجيلات بحسب وصف قوجمان. وقد تطور أداء الفرقة بشكل ملحوظ فيما بعد، حيث أُفسح المزيد من المجال للعزف المنفرد على آلات الخط اللحني (العود أو الكمان أو القانون) أو حتى للعزف على الآلات في أداء كامل دون المغني.
الأسلوب الموسيقي للمقام العراقي
ظل المقام العراقي، أو النغم كما هو معروف أكثر في العراق، يُتناقل شفهياً ويتأثر بالمزيج الثري للموسيقى الكردية والتركية والفارسية وموسيقى من بلاد عربية أخرى. فالدور المحوري للصوت يوضح أهمية الأناشيد والجو الخاص للمقام العربي. المقامات عبارة عن أساليب لحنية تستخدم كأساس للارتجال، وتظهر رقة المقامات في طبيعتها النغمية حيث يغني القارئ مقطع لفظي واحد على نوتات موسيقية متعددة.
يبدأ الأداء بالتحرير، وهو أداء موسيقي أقصر من اللحن الرئيسي حيث يستخدم المغني مقاطع لفظية أوعبارات فقط. ولا يوجد قياس دقيق للمقدمة ولا المقام، لذلك يتوقف العزف فقط على الأدوات اللحنية. الأناشيد مستندة إلى الشعر سواء القصائد بالعربية الفصحى أوالموال البغدادي (أو الزهيري) بالعامية، وتدور مواضيع الشعر حول الحب والانفصال والشوق والحزن.
وعلى الرغم أن الموسيقار يجب أن يراعي كل نمط من أنماط المقامات، فله مجال واسع للارتجال والتعبير عن طريق إطالة أو تقصير عزفه مثلاً. وبعد الفراغ من الإطناب النغمي الطويل في المقام، تُغنى مقطوعة شفهية قصيرة هي في العادة البستة الخفيفة (وهي نغمة مذيلة). وتقدم هذه المقطوعات تباين خاص حيث إنها تتكون من مقاطع وغالباً ما تمنح للعازفين الرئيسيين فرصة للغناء وتستعد الجمهور للأداء الموسيقي التالي للمقام.
رغم الحياة الموسيقية النابضة للمدن العراقية في النصف الأول من القرن العشرين إلا أنها اختفت تقريباً تماماً في الوقت الحالي، ويمكن الاستماع إلى أغاني لعدد قليل جداً من الفنانين الذين مازالوا يعزفون في حفلات، أو إلى التسجيلات الموسيقية الأولى المحفوظة على أقراص الشيلاك.
يرجع جزء من مادة هذا المقال إلى محادثة جمعت بين الكاتب وحسقيل قوجمان في ٢٠١٣.