من بغداد إلى بلومزبيري: قصة تاجر كتبٍ عراقي

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

اقتنت المكتبة البريطانية مخطوطاتها العلمية العربية عبر مصادر متعددة ومتنوعة. يتناول هذا المقال سيرة شخصٍ ساهم في إثراء هذه المجموعة وعاش حياةً مليئة بالمغامرات في لندن والشرق الأوسط.

إذا ما تصفحنا المخطوطات العلمية العربية المتاحة على مكتبة قطر الرقمية، والتي تربو على مائتي مخطوطة، سنجد أن عددًا منها يحمل اسم تاجر الكتب الحاج عبد المجيد بلشاه. اشترى المتحف البريطاني هذه المخطوطات في الفترة ما بين ١٩١٥-١٩٢٠، وتتضمن المخطوطات أعمالًا هامة في الطب والفلك والتنجيم والرياضيات.

ورقة من مخطوطة في علم التنجيم، ابتيعت من بلشاه. Or 8349، ص. ٤٦و
ورقة من مخطوطة في علم التنجيم، ابتيعت من بلشاه. Or 8349، ص. ٤٦و

ولا تنحصر إسهامات بلشاه الهامة في مجموعات المخطوطات العربية فحسب، بل نلمسها أيضًا في المقتنيات الفارسية والتركية لدى المكتبة البريطانية.

بلشاه والمتحف البريطاني

توَّثق سجلات الاقتناء التاريخية للمكتبة البريطانية معاملات شراء دورية من بلشاه في الفترة ما بين ١٩٠٩-١٩٢٢. كما تتضمن هذه السجلات رسالةً بتاريخ ٢٩ أكتوبر ١٩١٩ بقلم ليونيل بارنيت، أمين قسم الكتب المطبوعة والمخطوطات الشرقية. في هذه الرسالة، يوصي بارنيت مجلس أمناء المتحف البريطاني "بمنتهى الشدة" بأن يشتروا عددًا كبيرًا من أصل ٣٧٠ مخطوطة عربية وفارسية كان قد عرضها بلشاه مؤخرًا بمبلغ ١٢٠٠ جنيه إسترليني.

ويستفيض بارنيت في مدح سعة المجموعة وندرتها وجودتها الأدبية والتاريخية والخطيّة، ومصرحًا بأن "كل مخطوطةٍ من بينها تعد في حد ذاتها إضافةً قيمة لمكتبتنا [...] إن اقتناءها من شأنه أن يجعل من مجموعاتنا العربية والفارسية المجموعة الأثرى على الإطلاق في أوروبا".

كما يراعي بارنيت الإشارة إلى الصفقة الممتازة المعروضة عليهم: "هذه المجموعة المبهرة، والتي يعتبر مبلغ ٥٠٠٠ جنيه إسترليني قليلًا عليها، معروضة الآن على الأمناء بتكلفة لا تتعدى ثلاثة جنيهات للمخطوطة الواحدة". ولا يخفى حماس بارنيت وهو يستطرد واصفًا هذا البيع بأنه "عرضٌ جيد بصورة استثنائية [...] على الأرجح فرصة لن تتكرر". ومن الواضح أن بارنيت نجح في إقناع مجلس الأمناء الذين وافقوا على عملية الشراء. والعديد من المجلدات التي اشتراها المتحف موثقة في قائمةٍ مرجعية نُشرت في ١٩٢٢.

تدوينات تشير إلى مخطوطات "مشتراة من عبد المجيد بلشاه" في سجلات اقتناء المتحف البريطاني، ١٩١٩
تدوينات تشير إلى مخطوطات "مشتراة من عبد المجيد بلشاه" في سجلات اقتناء المتحف البريطاني، ١٩١٩

ولم تكن المجموعة التي ابتاعها المتحف البريطاني من بلشاه كل ما كان لديه من كتب؛ حيث يسجل باحث العلوم الفارسية إ. ج. براون في فهرس مجموعته الخاصة عددًا من عمليات "التقسيم" (أو الاتفاق على توزيع الكتب بين المشترين) التي جرت في المتحف البريطاني بين ١٩١٩ و١٩٢٠. ويدرِج فهرس براون مائة مخطوطة على الأقل اقتناها من بلشاه، غالبًا عبر عمليات التقسيم المذكورة، ويصف العديد منها لاحقًا بـ"خيرة كنوز" مجموعته (ص. xvii).

ووفقًا لبارنيت، كان السبب وراء هذه الصفقات الاستثنائية يكمن في اعتزام بلشاه العودة إلى بغداد "لأسبابٍ عائلية". ولكنه لم يغادر لندن قط، بل استمر في بيع المخطوطات للمتحف بين الحين والآخر حتى موته المفاجئ سنة ١٩٢٣.

فمن كان هذا الشخص الذي ترك ذوقه واهتماماته كتاجر كتب بصمةً دائمةً على مجموعة المكتبة البريطانية؟

بلشاه: السفر عبر الإمبراطوريات

ولد عبد المجيد بلشاه في بغداد الخاضعة للحكم العثماني سنة ١٨٧٣، ثم هاجر في شبابه إلى برلين، وتواجد في لندن منذ سنة ١٩٠٤ على الأقل. وقد عاد إلى الشرق الأوسط بشكلٍ متكرر، إما للتجارة أو لمرافقة المسافرين والدبلوماسيين البريطانيين. وفي ١٩٠٨-١٩٠٩، حج بلشاه إلى مكة والمدينة برفقة شابٍ إنجليزي يدعى آرثر جون بينج وافيل، كان قد خدم في الجيش البريطاني في شرق أفريقيا وتعلم اللغتين العربية والسواحلية. وعلى غرار السير ريتشارد بورتون، قام وافيل بالرحلة متنكرًا، حيث ادعى أنه زنجباري اسمه علي بن محمد. كانت لدى وافيل معلومات وفيرة عن الإسلام، وكان يبغض جهل وعنصرية أقرانه الأوربيين، وقد سجل رحلته إلى مكة في كتاب أسفار أسماه "حاجٌ معاصر في مكة ومحاصَر في صنعاء" (١٩١٣).

صورة لآرثر وافيل في دمشق سنة ١٩٠٨، من كتاب "حاجٌ معاصر في مكة ومحاصَر في صنعاء"، ص. ii
صورة لآرثر وافيل في دمشق سنة ١٩٠٨، من كتاب "حاجٌ معاصر في مكة ومحاصَر في صنعاء"، ص. ii

يقدم لنا وافيل في كتابه نافذةً على شخصية بلشاه، غير أنه يرسم صورةً هزلية له ويصرح بجفاف أن بلشاه "لم يُخلق ليلعب دورًا بطوليًا" (ص. ١٧٣). فتحت الاسم المستعار عبد الوحيد، يقابلنا بلشاه وهو يسقط من على ظهر حماره تارة (ص. ١٧٠)، وخائرًا من دوار البحر تارةً ثانية (ص. ٣٦)، وتارةً ثالثة وهو يملأ بطنه بحلوى المكارون سرًا في غرفته بالفندق خلال شهر رمضان (ص. ٤٣).

وفي إحدى المرات، يذكر وافيل أن بلشاه أفرط في الاكتحال لدرجة أنه "كاد يعمي نفسه. وحاول بعد ذلك مسح الكحل بقطعةٍ من الإسفنج، مما أدى لتلطيخ وجهه بالكامل بلونٍ بنفسجيٍ زاهٍ قضى ما تبقى من اليوم محاولًا أن يزيله" (ص. ٩٢). ويصف وافيل بلشاه على أنه ثرثارٌ مدلِّس، حتى أنه يذكر – بشيءٍ من الإطراء – "طول لسانه، [...] ومهارته في التعريف عن نفسه وفي مصادقة كل من هب ودب [...] كما أنه كذابٌ شديد البلاغة" (ص. ٢٠٥).

ويلقي وافيل بالضوء أيضًا على النموذج التجاري الذي اتبعه بلشاه. ففي المدينة، اشترى بلشاه مخطوطات "بثمنٍ باهظ، آملًا في أن يبيعها في أوروبا بثمنٍ أبهظ" (ص. ٧٩). وخلال مغامرتهما الثانية معًا – في اليمن هذه المرة سنة ١٩١١ – تقمص بلشاه شخصية "خبير آثار أتى إلى هناك لشراء الكتب" (ص. ٢١٠).

مقتطف من "رسائل إخوان الصفا" يعود تاريخها إلى ١٢٤٧م. اشتُرى هذا المجلد من عبد المجيد بلشاه في ٨ نوفمبر ١٩١٩. Or 8254، ص. ٢١٤و
مقتطف من "رسائل إخوان الصفا" يعود تاريخها إلى ١٢٤٧م. اشتُرى هذا المجلد من عبد المجيد بلشاه في ٨ نوفمبر ١٩١٩. Or 8254، ص. ٢١٤و

حياته في لندن: مدرس لغة عربية ومترجم لمكتب الهند

خلال الحرب العالمية الأولى، عمل بلشاه في مكتب الحرب البريطاني في رقابة المراسلات العربية والفارسية حتى صار ضالة كل من يحتاج إلى مهارات اللغة العربية في المقابلات الدبلوماسية الحكومية. وعندما افتُتحت مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في ١٩١٧، أصبح أول "محاضِر في عربية بلاد الرافدين [العراقية]" رغم افتقاره للمؤهلات العلمية الرسمية.

كما يظهر بلشاه في سجلات مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. المرقمنة على مكتبة قطر الرقمية. حيث كان لدى العديد من المسؤولين الاستعماريين، مثل الدبلوماسي كلاوديوس جيمس ريتش، شغفٌ بتجميع التحف والمواد التراثية، بما في ذلك المخطوطات، لمجموعاتهم الخاصة. ولذا، كثيرًا ما يتداخل تاريخ مجموعات المخطوطات العربية في بريطانيا مع تاريخ مشروعها الإمبراطوري.

على سبيل المثال، يظهر بلشاه كشخصية ثانوية في قصة بعثة دبلوماسية إلى بريطانيا بقيادة نجل شيخ البحرين. وفي مسودة رسالة، يطالب وزير الدولة لشؤون الهند بتعويضٍ عن النفقات المتكبدة خلال الزيارة. وبسخطٍ بيروقراطي، يشتكي الوزير من "انعدام التنسيق بين المسؤول السياسي الملحق خريطة صغيرة أو صورة أخرى محاطة بهامش خريطة أكبر أو خريطة مفردة أو صورة أكبر؛ أو أوراق موضوعة داخل كتاب أو مجلد أرشيفي. بالبعثة وصندوق [الضيافة الحكومي]" (IOR/L/PS/10/850/1، ص. ١٢٤و) وما ترتب على ذلك من عدم الاتفاق مسبقًا على الطرف الذي سيتحمل مسؤولية تنظيم الرحلة وتكاليفها. أقامت البعثة في بريطانيا ضعف الزمن المخطط، مما تمخض عن فواتير فنادق ضخمة ودينٍ لحساب "السادة توماس كوك وابنه".

وكان قد تم التعاقد مع بلشاه، الذي كان يدرِّس في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية آنذاك، ليترجم للضيوف، وأصبحت مسؤولية مستحقاته محل خلافٍ كذلك. لا يمكننا أن نستنبط من الملفات مدى كفاءة بلشاه كمترجم، ولكن مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. قرر دفع مستحقاته في نهاية المطاف "حتى لا يتحمّل مستر بلشاه ذاته أية خسائر مالية".

مسودة رسالة من وزير الدولة لشؤون الهند، تبين مستحقات بلشاه عن ٦٥ يومًا من خدمات الترجمة، ٥ يناير ١٩٢٠. IOR/L/PS/10/850/1، ص. ١٢٣ظ
مسودة رسالة من وزير الدولة لشؤون الهند، تبين مستحقات بلشاه عن ٦٥ يومًا من خدمات الترجمة، ٥ يناير ١٩٢٠. IOR/L/PS/10/850/1، ص. ١٢٣ظ

وكان الدور الأرفع الذي لعبه بلشاه في سنة ١٩٢٠، في الوقت الذي كانت تواجه فيه بلاد الرافدين الخاضعة للانتداب البريطاني أزمةً، حيث رافق السير بيرسي كوكس عندما استلم الأخير منصب المندوب السامي في العراق.

إرثه

على الرغم من الوصف الهزلي الذي يقدمه آرثر وافيل لبلشاه، من الواضح أن خبرته كجامع وتاجر مخطوطات كانت تحظى بالاحترام. فكما يشير نعيه في نشرة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، "يعود الفضل في وجود العديد من الكنوز القيمة من الأدب والخط العربي والفارسي في المكتبات العامة والخاصة إلى مهارة الحاج في جمع [المخطوطات]" (ص. ٢١١).

لقد عاش الحاج عبد المجيد بلشاه حياة المغامرين على هامش المصالح الأكاديمية والإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. وقد احتل مكانةً فريدة في لندن في أوائل القرن العشرين، جعلت منه الاختيار التلقائي كمترجمٍ دبلوماسي، ومسافرٍ مغامر، ومدرس لغة عربية لجيلٍ من المستعمرين الشباب، وتاجر مخطوطات شرقية ذائع الصيت. وترسم مغامراته وحياته الخاصة ملامح شخصيةٍ متنوعة: فهو مسلم وعثماني وبريطاني، وهو في الوقت ذاته مدرِّس ونذل وأحمق و"صديقٌ عزيز" وصاحب نكتة، لا سيما إذا كان هو موضوع النكتة.