عرض عام
يقول المستشرق إدوارد ويليام لاين في تأريخه عن المجتمع المصري في القرن التاسع عشر: " يقتني ختمًا تقريبًا كل من يستطيع تحمل تكلفته، وإن كان خادمًا".
وقد كان لوظيفة الأختام كرموزٍ لإثبات امِلكية والسلطة النصية جذور عميقة في العالم الإسلامي، لا سيما في المجتمعات العربية والفارسية. فقد استُخدمت الأختام تاريخيًا لاعتماد الوثائق المتنوعة، كالرسائل والعقود القانونية، ولبيان ملكية الكتب والمخطوطات.
الأختام ذات الطراز الإسلامي
الملفت هنا هو استخدام مسؤولي الاستعمار البريطاني أيضًا لأختامٍ بحروفٍ عربية. فكما تشيرا فينيشيا بورتر وآنابيل جالوب في كتابهما عن الأختام في العالم الإسلامي، كان استخدام الأختام عادةً متأصلة في الهند حيث كان المسؤولون التابعون لشركة شرق الهند يعملون – نظريًا – "في خدمة" الإمبراطور المغولي. وقد أسس ذلك لسابقة دام أثرها طويلًا، حيث استمر مسؤولو المستعمرات البريطانية في استخدام الأختام ذات الطراز الإسلامي حتى بعد دخول القرن العشرين بكثير.
كيف نفسر استخدام الأوروبيين غير المسلمين لهذه الأختام في سياق الإمبراطورية البريطانية؟ هنا بعض الأمثلة من الشرق الأوسط والخليج من داخل سجلات مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. في المكتبة البريطانية.
أختام المقيمين السياسيين
مارست بريطانيا هيمنتها على الخليج العربي من خلال مقيميتها السياسية في بوشهر. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في الخليج العربي ونائبه يمتلكان ختمين بتصميمٍ عام يبيّنان منصبيهما باللغة الفارسية. طبعات الختمين مستطيلة بقياس ٢٢ × ٢٠ مم وتحملان كتابة واضحة بالخط الفارسي (النستعليق).
كان إدوارد تشارلز روس مقيمًا سياسيًا في الفترة ما بين ١٨٧٢-١٨٩١، وكان شغوفًا بجمع التحف. وفي حين أن ختمه – الذي صُمم خصيصًا لأجله – كان بنفس حجم وشكل الأختام العامة للمقيمين السياسيين، فإنه كان يتميز بوجود اسمه عليه.
ختما لويس بيلي وجون كالكوت جاسكين
لم تكن الأختام كلها مستطيلة، كما لم تتضمن كلها لقب حاملها. هناك مثلًا ختم لويس بيلي ( المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في الفترة ما بين ١٨٦٢-١٨٧٢)، وكذلك ختم جون كالكون جاسكين الذي شغل منصب مساعد المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في بوشهر في نهاية القرن التاسع عشر ثم أصبح بعدها أول وكيلٍ سياسيٍ في البحرين (١٩٠٠-١٩٠٣).
هذان الختمان بيضاويان وصغيران للغاية، حيث لا يتعدي حجمهما ١٩× ٩ مم و ١٤× ٩ مم على التوالي. ويحمل كلٌ منهما اسم صاحبه بالخط الفارسي، تزينه زخارف في هيئة كروم وأزهار.
يحمل ختم بيلي تاريخ سنة ١٢٧٩ هجريًا منقوشًا فوق اسمه، ويوافق هذا التاريخ الفترة ما بين ٢٩ يونيو ١٨٦٢ و١٧ يونيو ١٨٦٣ تقريبًا. وبما أن بيلي استلم منصب المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في أغسطس ١٨٦٢، فإن لهذا التاريخ أهمية كبيرة: فهو يشير إلى إنتاج الختم خلال الأشهر الثمانية الأولى من توليه منصبه. يمكننا أن نفترض إذًا أن بيلي أمر بصناعة الختم احتفاءً بمنصبه الجديد وبسلطته في الخليج.
ختم تشارلز بلجريف
وإلى جانب مسؤولي مكتب الهند، استخدم غيرهم من الأوروبيين العاملين في الخليج أختامًا عربية كذلك. كان تشارلز بلجريف من بين هؤلاء، حيث عمل مستشارًا لحكومة البحرين من ١٩٢٦ إلى ١٩٥٧. كان ختم بلجريف البيضاوي يضاهي أختام أسرة آل خليفة الحاكمة في حجمه، كما كان يحمل اسمه (سي دي بلكريف) بخط النسخ. يتضمن الختم أيضًا طغراء زخرفية لا تُشكل، على ما يبدو، جزءًا من الاسم.
وقد جاء ذكر ختم بلجريف في صحيفتيّ "شفق سرخ" و"اطلاعات" الفارسيتين في سياق الحديث عن الهيمنة البريطانية في البحرين. على سبيل المثال، يشير مقال بتاريخ ٨ أكتوبر ١٩٣٠ إلى أن "الشيخ حمد أمر بصناعة ختمين متطابقين، منقوشٌ عليهما اسمه كالتالي: الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وأحدهما في حوزة المستشار البريطاني الذي يستخدمه في ختم جميع القرارات والرسائل والأحكام ليتم تنفيذها". بينما يلاحظ مقال آخر بتاريخ ٢ ديسمبر ١٩٣٠ أن "ختم الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ... قلما يُرى أدنى المراسيم"، في إشارة واضحة إلى أن ختم بلجريف – وبالتالي سلطته الشخصية – كان يُفعَّل أكثر من ختم الشيخ حمد ذاته.
وتُظهر يوميات بلجريف أنه كان على دراية تامة بما تمثله الأختام من سلطة. ففي تدوينة بتاريخ ٣٠ مايو ١٩٣٠، يذكر بلجريف أن قاضي السُنَّة في البحرين – وهو كهلٌ ضرير – ألمح إليه بأن "زوجته المفضلة قد سرقت منه [ختمه]" وأعطته لرجلٍ آخر ليختم به بعض الأوراق. ويسجل بلجريف فزعه عند سماع ذلك كاتبًا "لو أقررنا بعدم صحة توقيعه لأصبحت كل الوثائق [التي ختمها] منذ أن فقد بصره عرضة للتشكيك".
وقد طالت حادثة أخرى ختم بلجريف نفسه بعدها بعام. ففي تدوينة بتاريخ ٢٩ مايو ١٩٣٢، يسجل بلجريف أن شخصًا يُدعى علي ابن حسين أعاد إليه ختمه بعد أن كان قد سقط من خاتمه خلال شجار. يسترجع بلجريف الحادثة معلقًا "إنني محظوظ لاستعادتي إياه حيث أنه الختم الذي أستخدمه على جميع الأوراق الرسمية ولو كنت فقدته لكان ذلك محرجًا".
يمكن أن تشير الأختام إلى المالك أو الكاتب أو المركز الاجتماعي، وقد كان المسؤولون البريطانيون أمثال بلجريف يدركون استخداماتها وإمكانية استغلالها بصورة خبيثة. يمكننا إذن أن نفسر استخدام الأختام هنا كنوعٍ من صناعة الإمبراطورية زخرفيًا ونصيًا، أو كما يسميها ديفيد كانادين، كنوعٍ من "الازتخراف" (على غرار الاستشراق) أو تجسد أنظمة السلطة في الزخارف الاجتماعية. تم ذلك من خلال الاستملاك الثقافي لرمزٍ "إسلاميٍ" مميز لإضفاء الشرعية على الهرمية والسلطة والنفوذ حتى يصبحوا "ظاهرين ومترسخين وفعليين" في عيون الرعايا البريطانيين والخصوم الاستعماريين على حد السواء.