عرض عام
كان بناء السكك الحديدية جزءًا أساسيًا من حملة الجيش الهندي البريطاني ضد الدولة العثمانية في بلاد الرافدين خلال الحرب العالمية الأولى. بدأت قوة حملة بلاد الرافدين (المعروفة أيضًا باسم "القوة د") بالبصرة، حيث احتلتها في نوفمبر ١٩١٤، ومن ثمّ سيطرت على مدينتيّ بغداد والموصل الحيويتين، وأنشأت إدارةً استعماريةً مبدئية في أنحاء المنطقة التي تمثّل العراق اليوم. اعتمد نجاح هذه الحملة إلى حدٍ كبير على بناء شبكةٍ من السكك الحديدية لربط القاعدة البريطانية الرئيسية في البصرة بعشرات الآلاف من الجنود المتمركزين في جميع أنحاء بلاد الرافدين. حيث كانت قدرة القوات البريطانية على الاعتماد على إمداداتٍ متواصلة من الغذاء والأسلحة والتعزيزات ميزةً حاسمة على الجيوش العثمانية المنهكة التي كانت تسعى لوقف الزحف البريطاني.
لكن السكك الحديدية لم تؤدِ أغراضًا عسكرية فقط. تكشف يوميات الحرب للقوة "د" أن المسؤولين الاستعماريين البريطانيين كانوا يفكرون في أهداف بريطانيا الإمبريالية في فترة ما بعد الحرب إلى جانب متطلبات الجيش، وأنهم وجَّهوا بناء السكك الحديدية في بلاد الرافدين وفقًا لذلك. فقد كان المخططون البريطانيون يعتزمون بناء شبكة نقلٍ يمكنها دعم ترسيخ النظام الاستعماري ومتطلباته الإدارية بمجرد انتهاء الصراع.
الاستخدامات العديدة للسكك الحديدية
كان التصوُّر الموضوع للسكك الحديدية هو أن تمثّل بنية تحتية بالإضافة إلى مصدر إيرادات لدولةٍ مستقبلية في العراق تخضع للسيطرة البريطانية. ففي برقيةٍ من فبراير ١٩١٨، يشير المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ البريطاني في الخليج العربي، السير بيرسي كوكس، إلى أن خط السكك الحديدية المقترح من البصرة إلى بغداد من شأنه أن "يلبي متطلبات ما بعد الحرب" لتحسين الاتصالات مع بغداد، وتطوير النقل لحجاج بلاد الرافدين. كما يعرب كوكس عن رأيه بأن الاحتياجات العسكرية المباشرة يمكن مواءمتها مع "التنمية والتهدئة" لصالح الهيمنة البريطانية طويلة الأجل في بلاد الرافدين.
نادى كوكس بشكلٍ متكرر بوضع مساراتٍ للسكك الحديدية يمكن أن تخدم الأهداف الإمبريالية بعد الحرب وأن توفر الدعم العسكري. ففي برقيةٍ من نوفمبر ١٩١٨، على سبيل المثال، يصرّح كوكس بأن إنشاء خطٍ من الناصرية إلى الحلّة "له أهميةٌ كبيرة من وجهة نظرٍ سياسية وتجارية"، في حين أن الخط الواصل بين بغداد والكوت هو "محض ضرورةٍ عسكرية" وبالتالي ينبغي تأجيله (IOR/L/MIL/17/5/3312، ص. ٣٦و). وعلى الرغم من أنه لا يذكر ذلك صراحةً، يبدو أن نهج كوكس بالنسبة للبنية التحتية في بلاد الرافدين كان يستند إلى رؤيةٍ تركز على احتياجات السيطرة البريطانية في فترة ما بعد الحرب. فإذا كان المسؤولون البريطانيون يأملون في أن يؤدي الازدهار الاقتصادي إلى جعل الوجود البريطاني المستمر أكثر قبولًا لدى سكان بلاد الرافدين، فإن السكك الحديدية الفعالة والمخططة بعناية من شأنها أن تلعب دورًا محوريًا في تحقيق ذلك الازدهار.
لطالما كان هذا النهج لبناء البنية التحتية عنصرًا راسخًا في الإمبريالية البريطانية. فقد صُمّمت شبكات السكك الحديدية في الراج البريطاني مع وضع كلٍ من الربحية الاقتصادية والمنفعة العسكرية في الاعتبار، فربطَت الموانئ بالمواقع الداخلية لاستخراج الموارد وضمنت ثبات الإمدادات من التعزيزات والأسلحة إلى مختلف الحاميات في جميع أنحاء الهند البريطانية. وكان كوكس وزملاؤه من الإداريين الإمبراطوريين يعتزمون تكرار هذا النظام الناجح للسيطرة الاستعمارية في بلاد الرافدين.
التنافس من خلال السكك الحديدية: الصراع على ولاية الموصل
تأثر بناء السكك الحديدية البريطانية في بلاد الرافدين أيضًا بالتنافس بين الإمبراطوريات. وقد تجلى ذلك بوضوح في الجدل حول السيطرة على ولاية الموصل، وهي منطقة إدارية عثمانية كانت تتمركز حول مدينة الموصل. فعند توقيع هدنة مودروس في ٣٠ أكتوبر ١٩١٨، كانت هذه المنطقة لا تزال تحت سيطرة الجيش العثماني. وقد نصت شروط الهدنة على أن كلًا من الجيشين البريطاني والعثماني سيظلان في المواقع التي كانا يحتلانها عند توقيع الهدنة. ومع ذلك، في انتهاكٍ للهدنة ومحاولةٍ للاستيلاء على المزيد من الأراضي، واصلت القوات البريطانية زحفها، واحتلت مدينة الموصل فارضةً أحقيتها العسكرية على الولاية في ١٤ نوفمبر. وازدادت القضية تعقيدًا بسبب اتفاقية سايكس بيكو لسنة ١٩١٦، التي قررت فيها الحكومتان الفرنسية والبريطانية أن الموصل ستشكّل جزءًا من مناطق النفوذ الاستعماري الفرنسي بعد الحرب. نجم عن ذلك مطالبات قومية متضاربة للسيطرة على ولاية الموصل من جهة البريطانيين والفرنسيين والأتراك.
وتنعكس حالة عدم اليقين هذه في المناقشات الموثّقة حول إنشاء السكك الحديدية لربط الموصل ببقية الأراضي العراقية التي تحتلها بريطانيا. فكما يشير المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في برقيةٍ كتبها يوم احتلال القوات البريطانية للموصل، فإن هذا الربط "له أهميةٌ قصوى، إذا أردنا إدراج هذه الولاية ضمن حدود الدولة العراقية" (IOR/L/MIL/17/5/3312، ص. ٣٦و). فقد كان من شأن بناء خطوط سكك حديدية إلى الموصل أن يسهِّل ترسيخ السيطرة البريطانية هناك، وأن يرمز إلى نية الحكومة البريطانية في ضمّ المنطقة إلى دولةٍ عراقية في المستقبل. أما إذا تقرر أن الموصل سوف "تقع ضمن النطاق الفرنسي"، فقد تساءل المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ عما إذا كان ينبغي حينها استخدام مواد بناء السكك الحديدية "المطلوبة بشكلٍ عاجل في أماكن أخرى" لهذا الغرض (IOR/L/MIL/17/5/3312، صص. ٣٦و-٣٧و). لقد أضعف عدم وجود خطوط سكك حديدية من فعالية الحامية البريطانية في الموصل، مما دفع قائد القوات البريطانية في بلاد الرافدين، السير ويليام مارشال، في فبراير ١٩١٩، إلى طلب تمديد السكك الحديدية إلى الأراضي المتنازع عليها. ولكن في هذه المرة، خضعت الاحتياجات العسكرية للدبلوماسية الإمبريالية، ورفض مكتب الحرب الموافقة على التمديد، متذرعًا بـ"أسبابٍ سياسية" دون توضيح – على الأرجح لتجنب العداوة مع فرنسا (IOR/L/MIL/17/5/3318، ص. ٤٩و).
الاحتلال بالسكك الحديدية
ظلت السكك الحديدية حيويةً مع انتقال الأنشطة البريطانية في بلاد الرافدين من الحملات الحربية إلى الاحتلال الاستعماري. فعندما ثار الزعيم الكردي محمود برزنجي ضد الاحتلال في يونيو ١٩١٩، أثبتت البنية التحتية للنقل ضروريتها في الرد العسكري البريطاني. حيث صرّح الفريق أول مارشال آنذاك أن لديه ما يكفي من القوات لهزيمة الانتفاضة الكردية، ولكن الصعوبة الرئيسية كانت تتمثل في النقل. وفي اتصالاته، يشير مارشال إلى أن خط السكة الحديد من قزلرباط كان حيويًا في الحملة القمعية، وأن الأهداف العسكرية والإدارية الاستعمارية كانت متوائمة. كما كانت للسكك الحديدية أهمية مماثلة في الحفاظ على السيطرة البريطانية في أعقاب هذه الانتفاضة. ففي برقية، يعرب مارشال عن رأيه في أن المنطقة "ستظل مزدهرة وسلمية" إذا أمكن السيطرة على الشيوخ الأكراد بإحكام – وهو إنجازٌ يقول إنه يمكن تحقيقه من خلال بناء وصيانة خطوط نقل فعالة بين أراضيهم والحاميات البريطانية.
لقد سمحت السكك الحديدية للسلطة الإمبراطورية الجديدة في العراق بالرد بسرعةٍ وبقوةٍ عسكرية على أي علامةٍ من علامات المقاومة العراقية. وأكَّدت أيضًا، أنه على الرغم من انتهاء النظام العثماني القديم، فإن الإمبراطورية البريطانية تعتزم البقاء في العراق إلى أجلٍ غير مسمى.