عرض عام
مقدمة
كانت القاهرة في أواخر القرن الخامس عشر مركز النشاط الفلكي في العالم العربي؛ فهناك تدارست شبكة معقدة من العلماء متعددي المواهب وتعاونوا فيما بينهم، وربطتهم صلات قرابة في بعض الحالات.
كان شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الصوفي (الذي نَشِط في أواخر القرن التاسع - أوائل القرن العاشر الهجري/ أواخر القرن الخامس عشر- أوائل القرن السادس عشر الميلادي) أحد أفراد هذه المجموعة البارعين والمؤثرين؛ حيث يُنسب إليه نحو ستةٍ وعشرين عملًا معظمها في علم الفلك الرياضي والمواقيت، وهي علومٌ تطورت على يد سلسلةٍ من العلماء البارزين الذين سبقوه، أولًا في دمشق ومن ثمّ في القاهرة. ومن بين هؤلاء العلماء ابن الشاطر (المتوفي سنة ٧٧٧هـ/١٣٧٥م) وجمال الدين المارديني (المتوفي سنة ٨٠٩هـ/١٤٠٦م) وابن المجدي (المتوفي سنة ٨٥٠هـ/١٤٤٧م)، وتلميذاهم سبط المارديني (المولود سنة ٨٢٦هـ/١٤٢٣م) وعبد العزيز الوفائي (المتوفي حوالي سنة ٨٧٥هـ/١٤٧١م). وقد انتسب معظمهم مهنيًا لمساجد أو لمؤسساتٍ أخرى باعتبارهم مُوَقِّتين.
لم يقتصر ارتباط الصوفي بهؤلاء العلماء – وخصوصًا الوفائي – على الارتباط الفكري، بل جمعته بهم أيضًا ارتباطات شخصية. يُستنتج ذلك من مصادر النصوص المحاذية للمخطوطات، بما في ذلك ملاحظات الملكية والتعليقات الهامشية وشهادات القراءة.
الصوفي عالمًا
يُعرف الصوفي في المقام الأول باعتباره عالم فلك نشر زيجًا مهمًا (وهو نوعٌ من المؤلفات يتضمن عادةً جداول بيانات فلكية وتقويمية مصحوبة بتفسيرات، وتكون خاصة بموقع معين). يُعتبر زيج الصوفي نسخةً مُبسطة، ومُعدلة لتلائم خط الطول في مصر، من زيجٍ مستخدم على نطاقٍ واسع أُلِّف حوالي سنة ٨٤٤هـ/١٤٤٠م باللغة الفارسية لأمير سمرقند وعالِم الفلك ألغ بيك (٧٩٦-٨٥٣هـ/١٣٩٤-١٤٤٩م).
يُعد زيج الصوفي مشروعًا تعاونيًا استُخدمَت فيه مقدمة زيج ألغ بيك، بعد أن أوكل الصوفي ترجمتها إلى تلميذه، يحيى بن علي الرفاعي (انظر أيضًا Paris BNF Arabe 2534). وزعم الرفاعي قيامه أيضًا بترجمة وإكمال النسخة العربية من الفصل الرابع من هذا العمل، حيث توفي الصوفي قبل أن ينجز ذلك الفصل.
الصوفي ناسخًا
تتضمن تركة أعمال الصوفي عددًا من المخطوطات التي ألّفها ونسخها بخط يده، ويوجد العديد منها الآن في دار الكتب والوثائق القومية المصرية بالقاهرة. وفي واحدٍ من حرد متون هذه المخطوطات، بتاريخ ٨٩٧هـ/١٤٩١-١٤٩٢م، يدون الصوفي اسمه بصيغةٍ أطول تبين نسبه على النحو التالي: "محمد بن أبي الفتح محمد بن الشرفي أبي الروح عيسى بن أحمد الصوفي الشافعي المصري". كما وُجد أن الصوفي هو من قام بنسخ نسخةٍ فريدة من رسالة ابن الشاطر عن أداة رصدٍ غامضةٍ من اختراعه، سمّاها "صندوق اليواقيت".
فضلًا عن كتابة رسائله ورسائل غيره، ترك الصوفي أيضًا ملاحظات ضمن مخطوطات أخرى تُظهر ارتباطاته الفكرية. حيث يظهر تذييل ملكيته، بتاريخ ٩٠٦هـ/١٥٠٠-١٥٠١م، في نسخةٍ يعود تاريخها إلى عام ٨٤٠هـ/١٤٣٦م من شرح ابن المجدي للكتاب المؤثر "تلخيص أعمال الحساب" للمراكشي، وهو عالم رياضيات مغربي عُرف باسم ابن البناء (توفي ٧٢١هـ/١٣٢١م).
الصوفي صانعًا
فضلًا عن الرياضيات وعلم الفلك، ألّف الصوفي أعمالًا في الميكانيكا والأدوات، بما في ذلك رسالة في استخدام الساعات الرملية بعنوان "الإعلام بشدّ المنكام". ومع هذا، وعلى النقيض من العديد من علماء عصره، لم يكن الصوفي مخترع آلات غزير الإنتاج. انعكست مهارات الصوفي كحرفي في مجالٍ مختلف، وهو ما تدل عليه كنيته: "الكتبي" التي تشير عادةً لتجار الكتب. إلا أن باعة الكتب في القاهرة خلال القرن الخامس عشر كانوا أكثر من مجرد تجار، فغالبًا ما كانوا يشتغلون أيضًا بإنتاج المخطوطات.
ونجد أثرًا على إنجازات الصوفي كصانع كتب في أحد مؤلفاته غير المتوقعة، وهو عبارة عن وصفٍ مختصر لمصر بعنوان "كتاب الصفوة في وصف المملكة المصرية" لا تُعرف له غير نسخة واحدة أنتجها الصوفي بنفسه. ففي حرد متن المجلد، يعدّد الصوفي مرورًا مواهبه المتنوعة، حيث يشير إلى نفسه على النحو التالي: "وتشرف حسب الإشارة الشريفة بتأليفه وكتابته وتذهيبه وتجليده العبد الفقير إلى الله تعالى محمد ابن أبي الفتح محمد الصوفي الشافعي حامدًا ومصليًا ومسلمًا وختامه مسك في منتصف شهر جمادى الآخرة من شهور سنة أربع وتسعمائة عربية هجرية" (Or 3392، ص. ٦٨و، السطور ٤-١٠).
لم يتبق من تجليد رائدة المظروف الأصلي إلا ظل على الصفحة الفارغة iv-و. ومع هذا، يُثبت الخط المنمق والزخرفة الفاخرة باللون الذهبي والأزرق والأحمر لواجهة صدر الكتاب أن الصوفي استحق لقب "الكتبي" عن جدارة.
مهنة العائلة: الصوفي وابنه
من خلال نسخة مُكتشفة حديثًا من شهادة قراءة، يبزغ جانب آخر من حياة الصوفي في صورة الأب الحريص على تشجيع ابنه على التعلم. ترد هذه الوثيقة الفريدة، المؤرخة في ٢٠ جمادى الأولى ٨٧٥هـ/١٤ نوفمبر ١٤٧٠م، في نهاية نسخة من "كتاب التسهيل والتقريب في الحل والتركيب"، وقد اعتمدها بنفسه الوفائي، تلميذ ابن المجدي (مؤلف النص).
يدون الوفائي متحدثًا عن الرسالة: "فقد قرأ عليّ هذا الكتاب [...] الولد الفاضل الذكي الأديب صاحب القريحة [؟] الوقادة والفكرة النفاذة شمس الدين محمد ولد [...] شمس الدين أبي الفتح الكتبي [...] قرأه بِحَثٍّ وتصوير وإتقان ومعرفة [...] فكان فهمه كالجواد الذي لا يدك له غبار والبحر الذي لا يعرف له قرار".
ويوضح ذلك أن شمس الدين الابن كان يشارك بنشاطٍ بالغ في مهنة العائلة المتمثلة في علم الفلك، وإن كان يحظى بتوجيه والده في تدريبه المهني. أما الوفائي، فقد كان شاهدًا شخصيًا على حياة ابن المجدي وأعماله وله علاقاته الواسعة، وكان حينها شيخًا عجوزًا في نهاية حياته. وهذا النص العابر المسجل هنا يشير إلى أن الصوفي أراد التأكد من أن منزلة الوفائي ستعزز من مكانة ابنه العلمية.
عالم فلك واحد أم اثنان؟
في واقع الأمر، تجمع شخصية "الصوفي"، على النحو الوارد في المصادر المنشورة، بين شخصين دون بيان ذلك، وهما: أبٌ وابنٌ تشابهت أسماؤهما إلى حدٍ كبير واشتغل كلٌ منهما بعلم الفلك على مدار عدة عقود. تشير بعض المصادر إلى أن الصوفي كان لا يزال على قيد الحياة سنة ٩٥٠هـ/١٥٤٣م، ولكن من غير الممكن أن يكون هو نفسه العالم الذي كانت معرفته محط احترامٍ واسع خلال سبعينيات القرن التاسع الهجري/ سبعينيات القرن الخامس عشر الميلادي؛ بل الأقرب للصواب أنه الشاب اللامع الذي حصل على شهادة قراءة في تلك الفترة، والذي مضى ليواصل تخصص العائلة.
كما أصبح الصوفي الابن معلمًا يدرُس الطلاب على يديه، وأشهرهم تقي الدين محمد بن معروف (المتوفى سنة ٩٩٣هـ/١٥٨٥م). ومع إسدال الستار على العصر المملوكي في القاهرة ليحل الحكم العثماني محله، أسس تقي الدين مرصدًا مشهورًا في إسطنبول، ليُمهد بذلك الطريق أمام المرحلة التالية في تطور علم الفلك الرياضي في العالم الإسلامي.
مراجع إضافية
علاء الدين ابن الشاطر. موقع موسوعة التراجم والأعلام [تاريخ الاطلاع ١٧ نوفمبر ٢٠٢٢]
المجدي أبي العباس أحمد بن رجب بن طنبغا. موقع تراجم عبر التاريخ [تاريخ الاطلاع ١٠ نوفمبر ٢٠٢٢]