عرض عام
الحرب العالمية الأولى وآفاقها للأكراد
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، واجهت الأقليات العرقية في الدولة العثمانية خيارًا صعبًا. فلطالما رغبت العديد من هذه الأقليات في الخروج من مظلة الحكم العثماني، كما أن الشعبية المتنامية للقومية التركية كانت تهدد بتقويض هوية واستقلال الفئات العرقية غير التركية الموجودة ضمن حدود الدولة. ومع اندلاع الحرب، مثّل الوجود المفاجئ لجيوش الغزاة البريطانيين والفرنسيين والروس فرصةً لإضعاف الحكومة العثمانية وتأمين وضعٍ أفضل عقب انتهاء الصراع. وكانت فرصة الحصول على الاستقلال تحت حماية قوة إمبريالية جديدة أمرًا مغريًا.
هذا هو الوضع الذي وجد أكراد بلاد الرافدين أنفسهم فيه مع زحف قوة حملة بلاد الرافدين البريطانية عبر الأراضي التي كانت تقع تحت السيطرة العثمانية. تقدم لنا مذكرات الحرب الخاصة بهذا الجيش لمحةً عن محاولات الجيش البريطاني لتجنيد الأكراد في عملياتهم العسكرية، وفي المقابل، عن محاولات القيادات الكردية لاستغلال التوسع الإمبريالي البريطاني لمصالحهم الخاصة. كما تبين هذه السجلات طموحات الأكراد بعد الحرب، وتحولهم في نهاية المطاف من حلفاء إلى مصدرٍ للمقاومة في العراق الواقعة تحت الاحتلال البريطاني.
جمع الاستخبارات البريطانية
قام الجيش البريطاني بجمع المعلومات عن الأكراد في بلاد الرافدين طوال الحملة، في بادئ الأمر بهدف تقييم جدواهم كحلفاء ضد الدولة العثمانية. فضمن وصفٍ مسهب، يذكر الملازم ج. س. ريد أن أكراد هكاري لا يكنون "أية نوايا حسنة" تجاه الحكومة العثمانية، ويؤكد على تعايشهم تاريخيًا مع الأقليات المسيحية (IOR/L/MIL/17/5/3287، ص. ١٦١و). كما تحتوي السجلات البريطانية على أمثلة من محاولات الأكراد لإفشال الجهود العسكرية العثمانية، مثل غارات "أكراد قزلباش" على خطوط الاتصالات التركية في يونيو ١٩١٦ (IOR/L/MIL/17/5/3255، ص. ٤٨و).
اهتمت بريطانيا أيضًا بالعلاقات السيئة بين الأكراد وروسيا. حيث تشير مذكرات الحرب – بصيغةٍ تلطيفية – إلى "الإجراءات العقابية" التي اتخذتها القوات الروسية في المناطق التي كانت تحتلها. وتسلط هذه التقارير الضوء على المشكلات التي يمكن أن تواجهها قوةٌ محتلة بسبب سوء العلاقات مع الأقليات المحلية، وتحث الضباط البريطانيين على النظر في مزايا التعاون بشكلٍ أكبر مع الأكراد المناوئين للعثمانيين.
التعاملات الأولية
فكر المسؤولون البريطانيون في إدخال أكراد بلاد الرافدين في الإدارة الاستعمارية الناشئة. وفي سبتمبر ١٩١٥، اقترح المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ في الخليج العربي توظيف أكرادٍ في شرطة البصرة، معللًا اقتراحه بأن ذلك من شأنه أن يحل أزمة العمالة القائمة وأن يقلل الحاجة لنقل أفراد الشرطة من الهند. فحتى في مرحلةٍ مبكرةٍ من الاحتلال البريطاني سنة ١٩١٥، كان المسؤولون البريطانيون يكيّفون احتلالهم لاستغلال الموارد الطبيعية والبشرية المحلية؛ وكان الأكراد محض واحدة من الأقليات التي يُرجح تعاونها.
الدبلوماسية البريطانية-الكردية
قامت مديرية الاستخبارات العسكرية البريطانية بإرسال ممثلين إلى مختلف الفصائل الكردية في بلاد الرافدين لاستطلاع استعدادهم للتعاون ضد الجيش العثماني. ووفقًا للسجلات البريطانية، أبدى بعض الأكراد تفضيلهم للسيطرة البريطانية مقارنةً بالسيطرة الفرنسية، نظرًا لدور فرنسا التقليدي "كنصيرة المجتمعات المسيحية" في الشرق الأوسط.
قام الأكراد بمبادراتٍ لمحاولة تأمين الدعم الإمبريالي البريطاني. ففي نوفمبر ١٩١٨، تلقى المسؤول السياسي البريطاني في كفري رسالةً من محمود برزنجي، أحد شيوخ السليمانية البارزين. طالب برزنجي بضم كردستان إلى "قائمة الشعوب المحررة" في أي مؤتمر سلام مستقبلي، وطلبَ تعليمات "لا سيما فيما يتعلق بالتحركات ضد الأتراك" (IOR/L/MIL/17/5/3311، ص. ٥٩و). ففي عرضه دعم بريطانيا في أية عمليات إضافية ضد الدولة العثمانية، كان برزنجي يتوقع في المقابل تمثيل المصالح الكردية عندما تجتمع القوى المنتصرة لرسم خريطة ما بعد الحرب. وقد استُجيب لتوقعاته في بداية الأمر: ففي ديسمبر ١٩١٨، بعد عقد هدنةٍ مع القوات العثمانية بفترةٍ وجيزة، أشرفت بريطانيا على تنصيب برزنجي رئيسًا للحكومة الكردية المتمركزة في السليمانية.
أبدى المسؤولون البريطانيون إدراكهم لبعض الطموحات الكردية في الاستقلال الإقليمي، إلا أن ضمان استقرار النظام الجديد كان أهم في نظرهم من طموح الأكراد في تقرير مصيرهم. وعليه، لم تُمنح مختلف "الأعراق والطبقات" في بلاد الرافدين إلا "درجةً من الحرية والحكم الذاتي تتوافق مع الحكم الجيد والآمن" (IOR/L/MIL/17/5/3312، ص. ٥٠و). وفي سنة ١٩١٩، سمح وزير الدولة لشؤون الهند بإنشاء "شفيرٍ من الدول الكردية المستقلة" (IOR/L/MIL/17/5/3322، ص. ٧٤و)، غالبًا بنية أن تشكل هذه الدول حاجزًا يكبح انتشار البروباجاندا المعادية لبريطانيا من الأناضول شبه جزيرة تُشكل معظم تركيا اليوم. إلى العراق. كان ذلك من شأنه أن يعزل الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا التي كانت بريطانيا تسعى في إنشائها.
الثورة ضد الإمبراطورية الجديدة
في نهاية المطاف، لم تدم إمكانية التعاون بين بريطانيا وأكراد بلاد الرافدين طويلًا بعد انتهاء الحرب. فعلى الرغم من استمرار بعض القبائل الكردية في دعم بريطانيا، سرعان ما تحولت مشاعر البعض الآخر نحوها إلى السخط بعد أن أدركوا أن التخلص من الحكم العثماني قد مكّن قوةً إمبريالية أخرى من أن تحل محلها. في ديسمبر ١٩١٨، أشرف الرائد إدوارد نويل، وهو عميل مخابرات بريطاني متمرس، على اجتماعٍ بين القيادات الكردية. وتحت إشرافه، طالبت القيادات رسميًا بوضع الأكراد "تحت البريطانيين وإلحاقهم إداريًا بالعراق" (IOR/L/MIL/17/15/22، ص. ٤١ظ). بذلك، كانت بريطانيا تضع حدودًا للطموحات الكردية، ففي حين أنها كانت مستعدةً لتمهيد الاستقلال الكردي ضمن نظامٍ أكبر يديره البريطانيون، فإنها لم تكن على استعدادٍ للذهاب إلى حد الاستقلال الحقيقي. وقد تجلت الدوافع الإمبريالية الأوسع لبريطانيا بشكلٍ أكبر في ردها على طلب القيادات التركية: فقد وافقت على الإلحاق بالعراق ولكنها بيّنت أن هذه السياسة لا تشمل الأكراد الموجودين في بلاد فارس، فهؤلاء "عليهم أن يظلوا رعايا مخلصين لبلاد فارس" (IOR/L/MIL/17/15/22، ص. ٤١ظ). لم يكن في نية البريطانيين توحيد كل الأكراد تحت رعايتهم "الخيّرة"، وإنما عززوا سيطرتهم على الدولة العراقية الجديدة، وفي الوقت ذاته، حافظوا على استقرار بلاد فارس الخاضعة للنفوذ البريطاني وضمنوا عدم تجزئتها.
تعكس العلاقة بين بريطانيا ومحمود برزنجي تداعي العلاقات البريطانية-الكردية. فبحلول ربيع عام ١٩١٩، كانت بريطانيا تسعى في تقويض نفوذ برزنجي، وإزالة بعض المناطق من نطاق سلطته، وفرْض مسؤولين سياسيين بريطانيين في مناطق أخرى. وبات المسؤولون العسكريون والسياسيون البريطانيون ينظرون إلى برزنجي باستخفاف على أنه "محض طفلٍ من حيث الإدراك وعمق النظر"، لديه "اعتقاد ساذج" بأنه "حاكم كل كردستان" (IOR/L/MIL/17/15/22، ص. ٤٢و). شنَّ برزنجي ثورةً مسلحةً ضد البريطانيين في شهر مايو، مما أثار مخاوف المقيم السياسي من أن يشجع ذلك على اندلاع ثوراتٍ مماثلة في شمال غرب بلاد فارس وشمال كردستان.
كان الرد البريطاني سريعًا وحاسمًا. فبحلول نهاية شهر يونيو كانت القوات البريطانية قد هزمت قوات برزنجي واحتلت السليمانية ونفذت هجماتٍ انتقامية ضد القرى الكردية. استبعد المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ أن يشكل برزنجي أي تهديد، معللًا ذلك بأن برزنجي "لم يكن يحظى بدعمٍ شعبي في أي وقتٍ من الأوقات"، وأن سقوطه سيعيد أمثاله "ممن يطمحون في أن يصبحوا حكامًا دكتاتوريين" إلى رشدهم (IOR/L/MIL/17/5/3323، ص. ٩٢و). بعد أن كان الأكراد حليفًا محتملًا، بات يُنظر إليهم كأقليةٍ تثير المشاكل وتهدد استقرار الوضع الإمبريالي الجديد. فمن منظور المسؤولين الإمبرياليين البريطانيين، كان الأكراد قد استهلكوا جدواهم.