عرض عام
سعى سلاطين المماليك في مصر وسوريا في أواخر العصور الوسطى، مثل الحكام الآخرين عبر التاريخ، إلى وسائل موثوقة لتفسير العالم من حولهم والتنبؤ بالأحداث المستقبلية. ما زالت العديد من المخطوطات المنسوخة في عهد سلطنة القاهرة موجودة حتى الآن، ويتناول عدد منها طرقًا مختلفة لتفسير الحاضر أو التنبؤ بالمستقبل. وبعض هذه المخطوطات، التي أُعدّت من أجل رعاة سياسيين رفيعي المستوى، تسمح لنا بالاطلاع على ما كان يقرأه السلاطين والأمراء (القادة العسكريين) المماليك وتبين لنا مكانة التكهن في السياسة المملوكية.
الأحلام والإهداءات: "كتاب البدر المنير في علم التعبير"
إحدى هذه المخطوطات هي Or 7733، وهي دليل لتفسير الأحلام يسمى "كتاب البدر المنير في علم التعبير"، لمؤلفه أبو محمد عبد الله بن علي بن عمر بن محمد بن علي البصري المصري، المعروف باسم ابن جيدان. وأُنجزت هذه المخطوطة التي كتبها المؤلف بخط يده يوم الأربعاء ٢ ربيع الثاني ٧٢٧هـ\٢٥ فبراير ١٣٢٧م لصالح خزانة السلطان. حيث يشرح ابن جيدان في المقدمة أنه ألّف الدليل من أجل الأمير المملوكي عماد الدين إسماعيل (المولود حوالي ٧٢٥هـ\١٣٢٥م). ولكن، نظرًا لأن هذا الأمير كان لا يزال رضيعًا في عام ١٣٢٧م، فلا بد أن المُهدى الحقيقي هو والده، السلطان الحاكم الملك الناصر محمد بن قلاوون (حكم ٦٩٣-٧٤١ ه\١٢٩٣-١٣٤١م، في فترات حكم متقطعة). ويدعي ابن جيدان أن " أَوْلَى الناس بهذا العلم السلطان ... فكانت رؤياه أصحّ من كافّة الناس بعد النبيين وأصدق" (Or 7733، ص. ٤ظ، الأسطر ١٠-١٣)، ويشير إلى أنه أهدى أيضًا كتابات أخرى في تفسير الأحلام إلى الناصر محمد.
يبدو أن ابن جيدان المنسي بالكامل تقريبًا كان مفسّر الأحلام (المعبِّر) الشخصي للناصر محمد، أو على الأقل سعى مرارًا وتكرارًا ليحظى برعاية هذا السلطان. حيث ساد خلال حكم الناصر محمد مناخ سياسي مستقر نسبيًا، واستمر ت فترة حكمه الثالثة واحدًا وثلاثين عامًا، كتب خلالها ابن جيدان كتابه "البدر المنير"، لذلك ليس من المستغرب أن يكتب داعمًا لسلالة السلطان، القلاوونيين (٦٧٨-٧٨٤هـ\١٢٧٩-١٣٨٣م). وهو يؤكد في مقدمته على الدور الهام الذي لعبه مفسرو الأحلام في التنبؤ بنَسب الحاكم وحماية ذلك النَسب، ويقدم سلسلة من الأمثلة تنبأ فيها مفسرو الأحلام بشكل صحيح بوفاة الورثة المفترضين للعرش وبولادة حكام المستقبل. ذكَّرَت هذه القصص الناصر محمد بأهمية مفسري الأحلام ومصداقيتهم في التنبؤ بحظوظ السلالات الحاكمة.
إن هذا السياق هو المفتاح لفهم سبب إهداء ابن جيدان العمل لأمير رضيع. فقد كان عماد الدين إسماعيل يبلغ من العمر سنة أو سنتين فقط عندما أهداه ابن جيدان دليل تفسير الأحلام، ولم يكن هو بالضرورة الوريث المتوقَّع. حيث كان أخوه غير الشقيق، الملك المنصور علاء الدين علي، باعتباره الابن الأول من الزواج الأول للناصر محمد، وريثًا للعرش حتى توفي في عمر السابعة ودفن في ضريح والده الملكي عام ٧١٠هـ\١٣١٠م. ويشير ابن جيدان إلى ولي العهد الراحل على أنه "علاء الدين علي الملك الشهيد، Or 7733، ص. ٦ظ، السطر ١٣)، ويبدو أنه تنبأ بشكل صحيح بأن عماد الدين إسماعيل سيصبح سلطانًا يومًا ما، حيث عاش ليحكم ولُقب بالملك الصالح (حكم ٧٤٣-٧٤٦هـ\١٣٤٢-١٣٤٥م). إن إهداء ابن جيدان كتابه "البدر المنير" لعماد الدين إسماعيل لم يكن مجرد ثقة في إمكانية حكم الأمير في المستقبل وبالتالي استمرار سلالة القلاوونيين، ولكن أيضًا إعلان ولاءٍ للسلطان.
المؤامرات والسلاطين الأطفال
عندما انتهى الحكم الطويل والمستقر نسبيًا للناصر محمد بوفاته، شهدت السنوات الإحدى والأربعين اللاحقة تولي اثني عشر شخصًا من نسله العرش قبل أن تنتهي سلالة القلاوونيين باعتلاء الملك الظاهر برقوق للعرش عام ٧٨٤هـ\١٣٨٢م. وبين وفاة الناصر محمد واعتلاء الصالح إسماعيل للعرش في العام التالي، والذي كان يبلغ من العمر حوالي سبعة عشر عامًا، تولى ما لا يقل عن ثلاثة من إخوته السلطنة لكنهم ماتوا أو تم خلعهم في مؤامرات فئوية. وسادت هذه السنوات الأخيرة المضطربة من سلالة القلاوونيين فترات حكم قصيرة لسلاطين صغار جدًا في السن – في الغالب كانوا قاصرين قانونيًا. وفي الوقت نفسه، تصارع الأمراء المماليك الأقوياء من أجل السلطة كصانعي ملوك وأوصياء.
ومن بين هؤلاء السلاطين الصغار كان حفيد الناصر محمد، الملك الأشرف شعبان الثاني (ولد ٧٥٤هـ\١٣٥٣م، حكم ٧٦٤-٧٧٨هـ\١٣٦٣-١٣٧٧م). حيث كان في العاشرة من عمره فقط عندما أصبح سلطانًا، لكنه احتفظ بفترة حكم طويلة على نحو غير معهود في تلك الفترة. ففي السنوات الأولى، كان يمارس السلطة الحقيقية الوصي والقائد العام (أتابك العساكر)، "الجندي العبد" (المملوك) يلبغا الخاصكي. ولكن بعد ثلاث سنوات من تولي الأشرف شعبان العرش، تآمر السلطان الطفل مع مجموعة من ستة أمراء للإطاحة بيلبغا وقتله في ربيع الثاني ٧٦٨هـ\ديسمبر ١٣٦٦م.
وفي الاضطرابات التي تلت ذلك، عزز أحد المتآمرين الستة، الأمير سيف الدين أسندمر الناصري (توفي ٧٦٩هـ\١٣٦٨م) سلطته، وحقق انتصارات عسكرية في البداية ضد المماليك الذين كانوا سابقًا تابعين ليلبغا ولا يزالون مخلصين له، ثم ضد أنصار السلطان نفسه. وبحلول صيف ٧٦٨هـ\١٣٦٧م، تولى أسندمر الناصري نفسه لقب القائد العام، وهو المنصب الثاني في المرتبة بعد السلطان. وبصفته وصيًا على العرش، أصبح الآن صاحب الأمر في سلطنة القاهرة والقوة وراء عرش الأشرف شعبان، الذي كان قد بلغ سن الرشد في حوالي الرابعة عشرة من عمره. وفي هذا المنصب القوي، يبدو أنه أيضًا قد التفتَ إلى علم التنجيم بحثًا عن إجابات.
توطيد سلطة أسندمر وهزيمته: "كتاب المسائل"
قد يبدو من المستغرب أن أسندمر الناصري، خلال صعوده الدرامي إلى السلطة، وجد الوقت للاطلاع على نسخة من "كتاب المسائل" للمنجم أبو يوسف يعقوب بن علي القرشي القصراني الذي عاش في أواخر القرن الثالث الهجري\التاسع الميلادي. والنص عبارة عن أطروحة من أكثر من مجلد حول "المسائل"، وهي ممارسة فلكية يتم فيها الإجابة على سؤال عن طريق توقع البرج للوقت والمكان الذي يطرح فيه المستجوِب السؤال. وبما أن هذه الممارسة كانت تُستخدم بشكل شائع للتنبؤ بالحظوظ السياسية للملوك المتوَّجين حديثًا، ويحتوي "كتاب المسائل" للقصراني على العديد من الأمثلة التاريخية لمثل هذه الأبراج الملكية، فليس من الصعب تخيُّل سبب اهتمام أسندمر الناصري بهذا الكتاب وهو يعزز سلطته.
اكتملت نسخة أسندمر الناصري من "كتاب المسائل" (Delhi Arabic 1916، المجلد ١) خلال الأيام العشرة الأولى من شوال ٧٦٨هـ\أواخر مايو - أوائل يونيو ١٣٦٧م، عندما كان يهزم قوات السلطان لتحقيق الهيمنة الكاملة على منطقة النفوذ المملوكي. ولا نعرف ما إذا كان هو أو منجم تحت رعايته قد استخدم بالفعل التقنيات التي شرحها "كتاب المسائل" للتنبؤ بما سيحدث للحاكم الجديد لمصر وسوريا. وبغض النظر عن أي دعم فلكي، فإن وصاية أسندمر الناصري لم تدم طويلًا. ففي صفر ٧٦٩هـ\أكتوبر ١٣٦٧م، منيت قواته بهزيمة كارثية على يد قوات السلطان وفرَّ إلى الإسكندرية، حيث لقي حتفه بعد فترة وجيزة وفي ظروف غامضة.
شكرًا للبروفيسور جو ستينبيرجين (جامعة غينت) على مساعدته.