عرض عام
وفي مقابلة مع الصحفية ريتشيل أسبدين، استحضر العالِم الموسيقي حسقيل قوجمان المولود في ١٩٢١ بالعراق بوضوح أجواء بغداد الثرية ثقافيًا في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين كما يتذكرها. ووصفت أسبدين مدينة قوجمان كالتالي:
"مدينة تميزها الطرق الترابية والأسواق المنتشرة في الأزقة والمآذن وأشجار النخيل. حيث يستمتع المسلمون واليهود والأرمن وقليل من شاربي القهوة الأوروبية بالاسترخاء في المقاهي حيث يمكنك الشراء - بالروبية الهندية - وإختيار وتناول السلطة الطازجة أو صيد الأسماك من نهر دجلة وشوائها أمامك. كما أن الشوارع والنوادي الليلية والمنازل تضجّ بأصوات الموسيقى."
وفي المقابلة ذاتها، وصف قوجمان استغراق المدينة في الاستمتاع بالبث الإذاعي للموسيقى عبر الإذاعة: "يقدم المطرب حديري أبو عزيز برنامجًا إذاعيًا كل جمعة من الساعة ١٢ ظهرًا حتى الساعة الواحدة. وتتوقف الحركة في العراق طوال هذه الساعة. حيث يُنصت الجميع في المقاهي أو المنازل إلى أبو عزيز."
الشعر الغنائي والأنماط المميزة للقرن العشرين
يعد المقام العراقي نوع من الموسيقى الحضرية تؤديها فرق الشالجي الموسيقية الحضرية ببغداد، مع الغناء الصوتي في الدور الرئيسي. وعلى الرغم من إمكانية تتبّع أصول نوع هذه الموسيقى الحضرية بوضوح في مراحل مبكرة من نشأته، إلا أنه تطور ووُثّق بشكلٍ رئيسيّ في القرن العشرين ببغداد والبصرة والموصل وكركوك. وتعد الأنماط الموسيقية الصوتية البستا والريفي من المراجع المميزة ضمن نوع المقام العراقي الأوسع نطاقاً حيث تتألف من أغاني قصيرة تتمحور كلماتها حول مواضيع الحب والانفصال والشوق والحزن.
ويمكن مقارنة البستا (بسته أو بستي) والريفي بنوع الصوت السائد في شبه الجزيرة العربية؛ حيث انتقلت هذه التقاليد شفهيًا من جيلٍ لآخر وأكّدت على دور الصوت وأهمية كلمات الشعر الغنائي. وخلافًا لنوع الصوت المنتشر في شبه الجزيرة العربية، يسعى تقليد المقام العراقي أيضًا إلى التعبير عن الأبعاد الخفية للمقام المُختار - عبر متواليات وتراكيب لحنية محددة - كما إنه يحوي المزيد من المقاطع الميلزمية في الترنيم عن نوع الصوت بشكلٍ عام.
البستا
عادةً ما يُغنّى نوع البستا الصوتي القصير - وهو عبارة عن أغنية موزونة - بعد أداء المقام. ويتلخص دوره الرئيسي في تغيير مزاج المستمعين وتحضيرهم لأداء المقام التالي؛ حيث يخلق أجواءً خفيفة كي يتمكن المستمعون من الاسترخاء والتفاعل بالغناء والتصفيق والرقص في بعض الأحيان. وتتيح كذلك مقاطع البستا لعازفي الآلات الموسيقية فرصة الغناء بينما يستريح المطربون الرئيسيون.
أسهم تأثير الموسيقى المصرية - لا سيما عبر بث المحطات الإذاعية في العراق ومصر - بالإضافة إلى وجود عدة تسجيلات على أسطوانات الشيلاك إلى حدٍ ما في فصل نوع البستا عن أداء المقام. وازدادت النظرة إلى البستا باعتباره نوعًا غنائيًا مستقلاً وتُعتبر دورة أغنية البستا بمفردها أداءً كاملاً من جانب المستمعين.
وعادةً ما تغني السيدات البستا، لكن ليس بشكلٍ حصريّ. ومن الممكن أن يُنظر لمواضيع الحب والانفصال باعتبارها مناسبة للأصوات الأنثوية بشكلٍ خاص. وشمِلت قائمة المطربات ذائعات الصيت في ذلك الوقت مونيرة هوَزوَز وسليمة باشا لقب عثماني كان يُستخدم عقب أسماء بعض حكام الأقاليم وكبار المسؤولين المدنيين والقادة العسكريين. التي عادةً ما سجّلت مع زوجها ناظم الغزالي، بالإضافة إلى صديقة الملاية - وجرت العادة استخدام كلمة "الست" المشرفة ، وتعني السيدة قبل أسمائهن. ولم يكن مقبولاً في العراق خلال الفترة ما بين عشرينات وأربعينات القرن العشرين غناء السيدات أمام الجمهور، وهو ما يجعل حصول المطربات على التقدير واسع النطاق وتسجيل غنائهم أمرًا شديد الروعة.
الريفي والباستا
كلمة الريفي (المشتقة من الريف) هي مصطلح جامع لعدة أنواع فرعية لأنماط الموسيقى الإيقاعية أو غير الإيقاعية. ويمكن تتبّع أصولها إلى الريف العراقي الجنوبي وعدة مدن مثل الناصرية والعمارة. ومن الناحية الموسيقية، يستند نوع الريفي إلى الموسيقى البدوية وإلى مقامات البياتي والحجاز والصبا. فعلى سبيل المثال، تعد الناصرية مسقط رأس حديري أبو عزيز، مطرب الريفي ذائع الصيت. ووفقًا لأسبدن، مُنح حديري منذ ١٩٣٦ وما يليه برنامجه الإذاعي المستمر على مدار ساعة واحدة، وهو ما أضاف بلا شك إلى سمعة الأنواع الفرعية على نحوٍ واسع النطاق.
ويعد نوعا الريفي والبستا، اللذين تطوّرا في بدايات القرن العشرين، مماثلين لنوع الباستا القديم، والذي كان سائدًا في شبه الجزيرة العربية. وأنهى نوع الباستا الدورات الارتجالية الطويلة لأداء الصوت، بينما اختتم نوعا الريفي والبستا دورة المقام العراقي أو برَزا بشكل مميز في حفلة غنائية.
وناسبت تلك الأنواع الصوتية القصيرة بوجهٍ خاص متطلبات صناعة التسجيلات المبكرة حيث تراوحت أقصى مدة للتسجيل ما بين ثلاث إلى خمس دقائق على أسطوانات الشيلاك. فكان نوع الصوت الطويل والأداء الارتجالي للمقام العراقي طويلاً جدًا بالنسبة لهذا الوسط. وكنتيجة مباشرة، باتت صناعة التسجيلات المبكرة في العراق والكويت وسيطًا لنشر نوعيّ البستا والريفي اللذين منحا الشهرة المبكرة للمطربين. وعلى هذا النحو، أثرت الموسيقى المسجّلة في نوع الموسيقى كله بشكلٍ جذريّ، كما أسهمت بشدة في رفع هذين النوعين من دورات الأغنية ضمن التقليد العراقي.