عرض عام
تقنيات اليوم في انكماش مستمر. منذ أقل من خمسين عام مضت كانت أجهزة الكمبيوتر من الكِبَر بحيث تحتاج إلى مكاتب كاملة لتسعها. أما الآن، فمن الممكن أن تحمل اللابتوب في حقيبة ظهرك، أو تضع لوحة كمبيوتر (تابلِت) جيبك، وحتى الهواتف المحمولة أصبحت تحتوي على أجهزة كمبيوتر قوية. فهناك تسابق نحو إنتاج تقنيات أصغر وأصغر.
ولكن الأمور لم تجر دائمًا على هذا النحو. ففي زمن ما كان الناس ينظرون للأكبر على أنه الأفضل، والمخطوطات العربية المتاحة لنا تقدم الأمثلة على ذلك.
صنجات وطيورٌ مغردة ورأس ميدوسا
حاول تخيّل ساعةً يصل ارتفاعها إلى نحو ستة عشر قدمًا وتضم رجالاً على جذوع ترتفع وتنخفض للإشارة إلى الوقت.
ولا تخلو هذه الساعة من الديكورات الميكانيكية. في المقدمة شجرةٌ مليئة بطيورٍ مغردةٍ وكهفان تخرج منهما الثعابين، وعازف يعزف على الناي، وقرصٌ يشير إلى الشهر، وطائر آخر يُسقط كرة على الصنج آلة موسيقية إيقاعية كل ساعة. هذا بالإضافة التماثيل الآلية لأسرى مقيَّدين يقطع السيَّاف الميكانيكي رأس أحدهم مرة في ساعة. ولكي يزداد المشهد خطورة، فإن الساعة تزدحم برؤوس ميدوسا بعيون يتغير لونها كل ساعة.
وهذا المنظر العجيب هو نتيجة دمج بين كل البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. التي ورد وصفها في أقدم وأهم نصٍ عربي عن البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. . ويُنسب هذا النص إلى أرشميدس ( ٢٥٠-٢١٢ ق.م)، ولكن "كتاب أرشميدس في عمل البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. " هو على الأرجح مؤلَّف يرجع إلى القرن التاسع يتكون من عددٍ من الأعمال الصغيرة حول هذا الموضوع كتبها مؤلفون يونانيون وفارسيون وعرب.
ماكينات هيدروليكية ضخمة
كانت البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. في منطقة البحر المتوسط قديمًا وخلال العصور الوسطى عبارة عن آلات هيدروليكية ضخمة استُخدمت في البداية لمعرفة الوقت، ولكن تم تطويرها بعد ذلك لعرض معلوماتٍ فلكية مثل أطوار القمر ومواقع الكواكب والنجوم.
لا أحد يعلم متى كان استخدام أول بنكام، وقد تم كشف آثار لها بين البقايا الأولى للحضارات المصرية والبابلية والهندية والصينية. وكانت البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. الأولى عبارة عن أدوات بسيطة تتكون من وعاء مخروطي به ثقب جانبي في الجزء السفلي بجوار القاعدة.
وكان الوعاء يُملأ بماء يترك للتقاطر من هذا الثقب. كان الوقت الذي يستغرقه تقاطر الماء من السلطانية يقاس بساعة شمسية، وأحيانًا كان يتم رسم الخطوط في جوف السلطانية للإشارة إلى مرور ساعة أو جزء من الساعة.
وكان مثل هذا الوعاء، أو الكليبسيدرا كلمة إغريقية لوصف الساعة المائية، ومعناها الحرفي "سارق المياه". كما أُطّلق عليه الإغريق، بمثابة منظمِ دقيقٍ للوقت، وكان يتسم بميزة واضحة تجعله يتفوق على المِزولة. فبخلاف المِزولة، كان هذا الوعاء مفيداً في الليل وداخل البيوت وفي الأيام المعتمة التي تشوبها الغيوم وكذلك في أوقات وأماكن أخرى عندما تكون الشمس غير مرئية.
من وعاء يقطر الماء إلى أنصاب مركّبة
خلال القرون التي تبدأ من الفترة الكلاسيكية (القرن الخامس ق.م تقريبًا) وحتى العصر البيزنطي في العصور الوسطى، طوَّر الإغريق الكليبسيدرا كلمة إغريقية لوصف الساعة المائية، ومعناها الحرفي "سارق المياه". لتؤدي المزيد والمزيد من الوظائف المركّبة، فأضافوا وعاء لالتقاط الماء المتقاطرة وتطفو فيه عوامة بمؤشر يشيران إلى الوقت الصحيح.
ثم أضافوا بعد ذلك تروسًا وسلاسل وبكراتٍ وخزانات مياه متنوعة وعوَّامات وخزَّانات هوائية وعجلات مياه، بل وكراتٍ سماوية ميكانيكية وأشكال لحيواناتٍ وبشر. وتلك الساعات المركّبة هي ما نعنيه الآن عندما نتحدث عن البنكامات، وقد برع العرب خلال العصر الذهبي للإسلام في تصميمها وإنشائها.
وربما اكتسب العرب معرفتهم الأولى بهذه البنكامات جمع بنكام وهي الساعة المائية. من تلك التي رأوها قائمة في الأراضي الفارسية والبيزنطية. فكان يوجد في غزة، على سبيل المثال، ساعة مائية معقدة وضخمة تقف في إحدى ساحات المدينة الرئيسية وكانت ما زالت تعمل على أكمل وجه في القرن السادس الميلادي.
البنكامات في الكتابات العربية
اطّلع على نص أرشميدس ونصوص أخرى مثله مؤلفون مثل أخوة بني موسى في بغداد خلال القرن التاسع والجزري (١١٨١-١٢٠٤) في شرق الأناضول جنوب شرق تركيا اليوم (شرق جنوب تركيا حاليًا). ويمكن أن نرى أثر الساعات المائية المنسوبة إلى أرشميدس في كتاب الجزري "كتاب في معرفة الحيل الهندسية" ( Or. 116).
وعلى الرغم من أن الساعات الموصوفة في هذه الكتب قد تبدو مبالغ فيها بمقاييس وقتنا الراهن، إلا أنها كانت تُعدّ أدق أجهزة لضبط الوقت عُرفت قبل ابتكار ساعات البندول في القرن السابع عشر على يد العالم الهولندي كريستيان هويجينز (١٦٢٩-١٦٩٥).