عرض عام
رحلة مليئة بالسوابق
كانت الرحلة الثالثة لشركة الهند الشرقية (١٦٠٧-١٦١٠) أول رحلةٍ تُنظم عقب الحرب الأنجلو-أسبانية (١٥٨٥-١٦٠٤). كما كانت الرحلة الإنجليزية الأولى التي تصل إلى الهند، متّبعةً المسار الذي وضعه البرتغالي النبيل ونائب الملك في الهند لاحقًا، فاسكو دي جاما، سنة ١٤٩٨. كانت الغاية الرئيسية من هذه الرحلات إقامة علاقات تجارية مع مختلف المرافئ الاستراتيجية في البحر الأحمر والمحيط الهندي. وعلى الرغم من كونها عمليةً مطولةً ومليئةً بالتحديات، فقد تحقق هذا الطموح بشكل جزئي. تسلط اليوميات المدونة أثناء هذه الرحلات الضوء على بعضٍ من أولى التفاعلات بين الطواقم الإنجليزية والسكان المحليين على سواحل أفريقيا والخليج وآسيا، وتقدم رؤيةً واضحةً عن الحياة في البحر في القرن السابع عشر. ضمن سجلات مكتب الهند، توجد سبع يوميات للسفن كُتبت أثناء الرحلة الثالثة، تتوفر خمسٌ منها على مكتبة قطر الرقمية.
الرحلة: صعوبات منذ البداية
كان هناك ثلاث سفن عند انطلاق الرحلة: "ريد دراجون"، بقيادة القبطان جون كيلينج؛ و"هيكتور"، بقيادة القبطان ويليام هوكينز؛ و"كونسينت"، بقيادة القبطان ديفيد ميدلتون. غير أن السفينة "كونسينت" غادرت قبل السفينتين الأخرى ين بيومٍ واحد، وأتمت رحلتها بالكامل بشكلٍ مستقل.
تعرضت السفن للعددٍ من الصعوبات منذ البداية، منها صعوبات عملية وأخرى تتعلق بالطاقم. فقبل الانطلاق، تأخر تجميع أفراد الطاقم، ثم فر العديد منهم من الخدمة خلال الرحلة. وقبل مغادرة السفينة "هيكتور" للقناة الإنجليزية، حدث بها تسرب توجَّب إصلاحه قبل أن تتمكن السفينة من مواصلة الإبحار.
ومن أكبر الصعوبات التي واجهتها الرحلة هي تأمين كميات كافية من الغذاء والمياه. حيث تسجل اليوميات في العديد من الحالات حاجة القبطان لفرض التقنين إلى حين وصول السفينة إلى محطتها التالية والتزود بالمؤن. وقد أثر نقص المؤن حتمًا على صحة الطاقم، حيث اضطرت السفينة في كثير من الأحيان إلى الرسو لفترات طويلة في عدة مرافئ حتى يتسنى لأفراد الطاقم التعافي من أمراضٍ أصابتهم. وكان من المعتاد أن يفقد عدد من البحارة أرواحهم في هذا النوع من الرحلات، ولم تكن هذه الرحلة استثناءً لذلك.
سوقطرة
على الرغم من التحديات المستمرة المتعلقة بالإبحار، شقّت السفينتان "دراجون" و"هيكتور" طريقهما حول ساحل أفريقيا، ووصلتا في نهاية المطاف إلى سوقطرة. نظرًا لموقع سوقطرة المتميز بين خليج عدن وبحر العرب، لطالما كانت الجزيرة مرفأً يربط البحر الأحمر بالهند، وقد شهدت على مر القرون بل وحتى الألفيات وصول البحارة والتجار العرب واليونانيين والهنود والبرتغاليين، وذلك قبل ظهور شركة الهند الشرقية مؤسسة بريطانية كانت تدير المصالح التجارية والعسكرية في الهند وجنوب غرب آسيا بفترةٍ طويلة.
ولربما اعتاد سكان سوقطرة على زيارة التجار من مختلف أنحاء العالم، إلا أن اليوميات تصورهم كأشخاصٍ خائفين وعدائيين. وتدعي إحدى اليوميات أن السبب في ذلك هو قيام البرتغاليين بأسرهم وبيعهم للأتراك العثمانيين كعبيد.
في ٢٢ أبريل ١٦٠٨، سجل جون هيرن وويليام فينش من السفينة "دراجون" وأنتوني مارلو من السفينة "هيكتور" سيرهم في بلدةٍ مهجورةٍ بالكامل مبنيةٍ من الحجارة. وأثناء بحثهم عن السكان، وصفوا استغرابهم لما وجدوه داخل المنازل. ففي أحد تلك المنازل وقعوا على عدة أنواع من التوابل والأعشاب الطبية، منها الصبار السقطري والكركم واللبان والمستكة ودم التنين (على الأرجح على شكل صمغ وراتنج) والبخور. يؤكد مارلو أن هوكينز كان قد أمرهم بعدم نهب أو تخريب أية ممتلكات، وذلك للتفريق بين سلوكهم وسلوك الهولنديين والبرتغاليين كما زُعم.
ورغبةً منهم في التواصل مع السكان المحليين (بالبرتغالية على الأرجح)، تقدموا نحو مستوطنة أخرى، واقتربوا ملوّحين بعلمٍ أبيض. لم يسمح السكان المحليون لهم بالبقاء، غير أنهم نجحوا في نهاية المطاف في إقامة اتصالات وعلاقات ودية مع سيد عامر بن سعيد، ملك سوقطرة، في تمريده [حديبو] وقاموا بتبادل الهدايا.
ومن سوقطرة، افترقت السفينتان، حيث أبحرت "هيكتور" باتجاه الهند بينما أبحرت "دراجون" باتجاه سومطرة وجاوة. وصلت السفينة "هيكتور" إلى وجهتها في ٢٥ أبريل ١٦٠٨، لتكون بذلك أول سفينة إنجليزية على الإطلاق تدخل مرفأً هنديًا. التقت السفينتان مجددًا في ديسمبر، حيث تولى القبطان كيلينج قيادة السفينة "هيكتور" وأرسل السفينة "دراجون" إلى إنجلترا محملةً بالقرنفل. وصلت السفينة "دراجون" إلى بليموث في سبتمبر من السنة التالية. في تلك الأثناء، توجه كيلينج بالسفينة "هيكتور" نحو جزر باندا محاولًا إقامة علاقاتٍ تجاريةٍ معها، إلا أنه لم يُفلح في ذلك فاضطر إلى العودة إلى بانتن. ومن هناك، أبحر عائدًا إلى إنجلترا في أكتوبر ١٦٠٩ ومعه حمولة من الفلفل، ووصل في مايو ١٦١٠. بالمجمل، درّت الرحلة الثالثة أرباحًا طائلة على الإنجليز، حيث بلغ عائدها ٢٣٤٪.
تحليل اليوميات
كمعظم اليوميات المبكرة لشركة الهند الشرقية، تتوفر اليوميات السبع التي توثق الرحلة الثالثة على شكل أجزاء غير مكتملة فقط. وهي بقلم القبطان في معظم الأحيان، إلا أن هناك أيضًا تدوينات كتبها كبار أفراد الطاقم. تم تسمية المدونين في أغلب الأحيان، إلا أن هناك مدوّنًا مجهولًا واحدًا على الأقل. جرت العادة أن تكون هناك أكثر من يومية لكل سفينة للحيلولة دون حدوث نقصٍ أو سهو، وللمقارنة بين مختلف النسخ التي يتم جمعها لاحقًا في تقريرِ واحد دقيق يمكن الرجوع إليه مستقبلًا.
وعلى مدى قرونٍ من رحلات شركة الهند الشرقية، أصبحت اليوميات أكثر اتساقًا من ناحية التنظيم واللهجة. غير أن هذه اليوميات التي تعود إلى أوائل القرن السابع عشر تتباين بشكلٍ أكبر من ناحية الأسلوب. فبعضها يستخدم لهجةً شخصية (IOR/L/MAR/A/IV)، بينما يتسم البعض الآخر بقدرٍ أكبر من الموضوعية (BL Egerton MS 2100). وفي حين يستفيض بعضها في تقديم الأوصاف (BL Cotton MS Titus B. VIII، صص. ٢٥٢-٢٧٩)، يفتقر البعض الآخر إلى التفاصيل (IOR/L/MAR/A/VI). وكانت اليوميات، شأنها شأن البضائع المحملة، تُعد من ممتلكات الشركة، لذا فهي تولي الأولوية للمعلومات المفيدة لشركة الهند الشرقية. غير أن بعض المدوّنين كانوا يضيفون آراءهم الشخصية ويكتبون بصيغة المتكلم.
وعلى نحوٍ استثنائي، نستطيع أن نلمح شخصية كاتب التدوينات الموجودة في الملف IOR/L/MAR/A/IV، حيث تتسم تدوينات هذا المدوّن المجهول بطابعٍ أدبي يميّزه عن باقي المدونين. فبينما كان الطاقم يعيش على حصصٍ مقننةٍ من الغذاء والمياه منذ أيام ولم يكن ليُعثر على مرفًأ للتزود بالإمدادات، يقتبس المدوّن من كلمات فيرجيل ما يناسب مشقة تلك اللحظة: Haud ignara malis, miseris, surcuere disco (تعلّمت المكابدة، والآن أنا أتعلم كيف أخفف عمن يكابد). كما أنه يشير أكثر من مرة إلى كتاب "خطاب الرحلات" للتاجر الهولندي يان هيغن فان لينشوتن (المنشور بالإنجليزية سنة ١٥٩٨)، وروايته للأحداث أقرب إلى أن تكون سردًا تاريخيًا من كونها يوميات سفينة.
يمكن اقتفاء مبادئ كتابة هذه اليوميات بالعودة إلى كتاب "الأنظمة" لسيباستيان كابوت (١٥٥٣)، الذي تم تضمينه في مجموعة ريتشارد هاكلويت "الملاحات والرحلات والاكتشافات الرئيسية للأمة الإنجليزية" (١٥٩٨)، التي يُشار إليها عدة مرات في اليوميات. وفّر كتاب كابوت "الأنظمة" مجموعة تعليماتٍ تعين البحارة في تسجيل الرحلة والتحضير لها. حيث تتناول الأنظمة كيف يجهّز البحار نفسه، وكيف يدير الطاقم، وكيف يدون الملاحظات ومتى وعن ماذا يدونها، وكيف يتواصل مع السكان المحليين، بالإضافة إلى اقتراحاتٍ عن كيفية إقامة العلاقات التجارية. ولا حاجة لأن تكون الكتابة بليغةً أو أن تتضمن خواطر مستفيضة، بل ينبغي أن تكون على شكل ملاحظاتٍ موجزةٍ تُكتب لحظة وقوع الحدث أو بعده بفترةٍ وجيزة، كما ينبغي أن تُكتب بشكلٍ يومي. جميع يوميات الرحلة الثالثة تتبع اقتراحات كابوت.