عرض عام
خلال الفترة ما بين حوالي ١٣٣هـ/٧٥٠م -٢٣٦ هـ/٨٥٠م اكتشفت الدولة العباسية في العراق علوم الفلك الهندية والإغريقية وواجهت مشكلة الاختيار بينهما. وبرزت إحدى محاولات حل هذه المشكلة أثناء خلافة المأمون (١٩٨هـ/٨١٣م - ٢١٨هـ/٨٣٣م) الذي ساند أول برنامج للأرصاد الفلكية. واستمرت هذه المحاولات حتى القرن الخامس هجريا /الحادي عشر ميلاديا عندما قام البيروني بترتيب المعارف التابعة لأسلافه ترتيباً منهجياً نقدياً، وأضاف إليها نتائج أبحاثه، وبذلك انتهت فترة الاستيعاب.
المؤلف: البيروني
وُلد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني(٣٦٢هـ/٩٧٣م - بعد٤٤٠هـ/١٠٤٨م) في ضاحية (بيرون) لمدينة كاث (عاصمة خوارزم) على حوض نهر جيحون الأدنى جنوب بحر أرال. كان يكتب باللغة العربية، رغم أنه استخدم الفارسية في بعض الأحيان، وتعلم اليونانية والسيريانية والعبرية والسنسكريتية. وعاش في خوارزم، مدينة الري (بالقرب من طهران)، جيلان وجرجان (جنوب بحر قزوين). وخلال الفترة ما بين حوالي ٤٠٨هـ/ ١٠٠٧م وحوالي ٤٤٠هـ/ ١٠٤٨م أجبره منتصر خوارزم، محمد الغزناوي (٣٨٨/٩٩٨-٤٢١/١٠٣٠) على الإقامة في غزنة (في أفغانستان).
في خوارزم ناصرته السلالة الحاكمة بنو عراق حتى ٣٨٥/٩٩٥ وكان أحد أفرادها الأمير أبو نصر منصور (توفى حوالي ٤٠٨/١٠١٨) أستاذاً له. وفي جرجان تولى حمايته قابوس بن وشمكير (٣٨٨/٩٩٨-٤٠٣/١٠١٢) والذي أهدى له كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية). وفي غزنة تولى رعايته محمود، ومن خلال حملاته العسكرية في شمال الهند تمكن البيروني من السفر في هذه البلاد وتعليم السنسكريتية والتعرف على علم الفلك الهندي. وبعد وفاة محمود، امتدت له علاقة طيبة مع ابنه وولي عهده مسعود (٤٢١/١٠٣٠-٤٣٢/١٠٤٠) وأهدى له كتابه القانون المسعودي.
اشتغل البيروني في الأساس بعلوم الفلك وترجع ملاحظاته إلى الفترة ما بين ٣٨٠/٩٩٠ و٤١٢/١٠٢١، ولكنه كان أيضاً من علماء الرياضيات وله كتب في التاريخ وعلم المعادن والصيدلة وفقه اللغة. وقد ظل يتراسل طوال حياته مع أعظم المفكرين والعلماء في زمنه: الفيلسوف ابن سينا (توفى ٤٣٨/١٠٣٧) وعلماء الفلك الخوجندي وأبو الوفاء البوزجاني (٣٢٨/٩٤٠-٣٨٨/٩٨٨) وأستاذه أبو نصر.
دليل علم التنجيم
كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم (فهم مبادئ فنون علم الفلك) هو دليل أو كتيّب حول علوم الفلك والتنجيم، ويأتي في شكل أسئلة وإجابات وقد كُتب - وذلك أمر غير عادي - بناء على طلب سيدة مسماة ريحانة بنت الحسن، وربما تكون واحدة من أفراد العائلة الحاكمة الخوارزمية التي نُفيت إلى غزنة بعد ٤٠٨/١٠٠٧، وقد صدر هذا الكتاب بنسختين: باللغة العربية والفارسية. ورغم عنوان هذا الكتاب، إلا أن موضوع علم الفلك يغطي فقط ثلث الكتاب. أما الثلثان المتبقيان فقد تناولا علم الهندسة والحساب والجبر وركزا على علم الفلك حيث يقول البيروني (لأنّ الإنسان لا يستحقّ سمة التنجيم إلّا باستيفاء هذه الفنون الأربعة). ويعتبر هذا الكتاب مقدمة ممتازة إلى علم الفلك والتنجيم الإسلامي في العصور الوسطى وهو مصدر شديد الأهمية في تعريفات المصطلحات الفنية في ذلك المجال.
تحفة في علوم الفلك
بالرغم من أن أهم مصنفات البيروني في علم الفلك هو القانون المسعودي، يُستخدم لفظ "القانون" في عنوان الكتاب وفي ذلك إشارة واضحة إلى جداول بطليموس المسماة بالقانون في المصادر العربية ومن ثم فإن عمل البيروني هو عبارة عن زيج (مجموعة من الجداول الفلكية) رغم أن محتواه يزيد عن الموجود في الزيج العادي بل هو نسخة محدثة من المجسطي لبطليموس. المجلد مُقسم إلى أحد عشر مقالة (مقالات) تتناول الكوزمولوجيَا والتسلسل الزمني وعلم حساب المثلثات (بما في ذلك النظريات الجديدة التي وضعها البيروني ورفاقه) وعلم الفلك الكروي والجغرافيا الرياضية وحركة الشمس والقمر والكسوف والخسوف ورؤية الهلال والنجوم الثابتة والكواكب وعلم الفلك الرياضي. كانت المبادئ الأساسية مبنية على نظام بطليموس ولكن القانون اشتمل على معلومات متعلقة بالثقافات الإسلامية الجديدة، وأضاف العديد من التصويبات نتيجة للملاحظات التي رصدها البيروني وأسلافه. ونظرًا لأن العديد من المصادر المستخدمة قد فقدت في وقتنا هذا، يبقى كتاب القانون منجماً من المعلومات عن تاريخ علم الفلك الإسلامي حتى القرن الحادي عشر.
العالِم الإسلامي الأكثر شُمُولِيّة
ربما كان البيروني أكثر العلماء إلماماً بتاريخ الحضارة الإسلامية، حيث نذر حياته كلها في البحث العلمي رغم تنقله الكثير طوال حياته. فهذا القانون المسعودي هو المساوي في العصور الوسطى للمجسطي لبطليموس ، الذي طوقته أعمال التحليل والنقد في العالم الإسلامي ما بين القرن الثاني هـ/الثامن م والقرن الخامس هـ/الحادي عشر م، وهو يمثل ذروة هذا المجال. وللأسف لم يصل هذا الكتاب ولا كتب البيروني الأخرى إلى الأندلس (أسبانيا الإسلامية)، ولهذا لم تُترجم أبداً إلى اللاتينية وظلت أوروبا القرون الوسطى غير عالمة بسطوع البيروني.