الثلج: أعماقٌ مخبأةٌ تحت السطح

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

ما بين الرفاهية والضرورة، اكتسب الثلج قيمة كبرى في المناطق ذات المناخ الدافئ لآلاف السنين. وعلى الرغم من التطورات التقنية التي غيرت من طرق إنتاجه وتخزينه واستخدامه، إلا أنه ظل منتجًا منظمًا وشديد الرواج لفترة طويلة في القرن العشرين.

الطرق القديمة لإنتاج الثلج الطبيعي وتخزينه

ابتداءً من الألفية الأولى قبل الميلاد، كان الناس يجمعون الثلج في الشتاء ويخزنونه في حفرٍ ليستخدموه في وقتٍ لاحق من السنة. أدى هذا الأسلوب إلى تطوير ما سُميّ بـ"الیخجال" (حفرة الثلج) في بلاد فارس [إيران]، وهي مخازنٌ استُخدمت لحفظ الثلج حتى شهور الصيف. كانت هذه المخازن تعمل إما عن طريق جلب المياه إليها عبر قنوات مغطاة، أو تحويل المياه إلى خنادق ضحلة مظللة وتجميعها منها بعد أن تتجمد. قام البريطانيون بتكييف هذا الأسلوب لاستخدامه قرب محطاتهم في سهول شمال الهند. أو كبديلٍ لذلك، كان الثلج يُنقل من المناطق الباردة التي يوجد بها على مدار السنة، مثل المناطق الجبلية المرتفعة أو الكتل الجليدية. وقد ظلت هذه المناطق مصدرًا للثلج لفترة طويلة من القرن العشرين.

صورة لمخازن اليخجال في بندر لنجة. الصورة ٤٩٦\٦\٢٥
صورة لمخازن اليخجال في بندر لنجة. الصورة ٤٩٦\٦\٢٥

انبهر الرحّالون الأوروبيون في القرن السابع عشر، مثل يان يانسزون ستروفز، بتوفر الثلج على نطاقٍ واسع في بلاد فارس، وذكروا أن بإمكان الجميع على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية أن يستمتعوا به على مدار العام. كانت مخازن الثلج موجودةً في إنجلترا في ذلك الحين، إلا أنها كانت ما تزال نادرة مما جعل المنتجات المثلجة حكرًا على الطبقات العليا من المجتمع. فحتى في أوائل القرن التاسع عشر، يعرب جيمز إدوارد أليكساندر مندهشًا عن الرفاهية الكامنة في إمكانية الحصول على الثلج "طوال أثقل شهور السنة" في مناخٍ حار كمناخ بلاد فارس (IOL.1947.b.134، ص. ١٤٢).

في القرن التاسع عشر، توفرت مصادر أخرى للثلج الطبيعي. حيث جنى رائد الأعمال الأمريكي فريدريك تيودور، الذي لُقِّب لاحقًا بـ"ملك الثلج"، ثروةً طائلةً من توريد الثلج من بوسطن إلى الهند، وكانت أولى شحناته قد وصلت إلى كلكتا سنة ١٨٣٣. كان ذلك أرخص بكثير من جلب الثلج من الجبال، كما أن الثلج كان أنقى وأنظف من أي ثلجٍ يتم جمعه من خنادق الثلج. وسرعان ما شاع الثلج المستورد في موانئ رئاسات كلكتا ومومباي وتشيناي.

وصول الثلج الصناعي

استمرت الوسائل التقليدية لإنتاج الثلج وتخزينه إلى جانب الطرق الصناعية الجديدة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، قامت الحكومة البريطانية بتثبيت مكثِّفات مياه تعمل بالطاقة البخارية في عدن. استُخدمت هذه المكثفات لإنتاج الماء العذب من مياه البحر، وبدمجها مع آلات صنع الثلج أصبح من الممكن إنتاج الثلج النقي. ومع ذلك، استمر استخدام المصادر الأخرى للمياه، كما أن الثلج الصناعي لم يكن نظيفًا دائمًا. فخلال ثلاثينيات القرن العشرين في البحرين، اشتكى موظفو الوكالة إما (١) مركز تجاري تابع لشركة الهند الشرقية؛ أو (٢) مكتب تابع لشركة الهند الشرقية ولاحقًا للراج البريطاني. البريطانية من أن الثلج الذي ينتجه مصنع البلدية ملوث لدرجةٍ تجعل استخدامه بشكلٍ مباشر في مياه الشرب غير ممكن، وتوجّب عوضًا عن ذلك تبريد زجاجات المياه باستخدام صندوقٍ يحتوي على الثلج، وهي وسيلةٌ أقل كفاءةٍ بكثير.

صورة منقوشة لرجلين يشغِّلان آلةً لصنع الثلج. مجموعة ويلكوم رقم 31483i. ملكية عامة
صورة منقوشة لرجلين يشغِّلان آلةً لصنع الثلج. مجموعة ويلكوم رقم 31483i. ملكية عامة

كان امتلاك آلة ثلجٍ خاصة أمرًا لا يقدر على تكلفته سوى أغنى الأغنياء. في أوائل القرن العشرين، كان معظم الناس يضطرون لشراء الثلج من محلات الثلج التي كانت تمدها المصانع. ونظرًا للإقبال الشديد، كانت هذه المصانع عرضةً لضغوطٍ كبيرة قد تجعلها مصدرًا للتوترات. ففي سنة ١٩١٠ في بغداد، كان أحد رعايا الهند، عبد العلي آدمجي، يمتلك مصنعين للثلج مع أخيه، لكنه دخل في خلافٍ مع والي بغداد الذي أجبرهما على بيع الثلج بأقل من سعر التكلفة، بل وحاول إغلاق مصنعيهما، حيث كان من شأن إغلاق المصنعين أن يسمح لمصنع البلدية باحتكار إنتاج الثلج. وقد شهدت البحرين أيضًا صراعًا قانونيًا في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ادعت بلدية المنامة أن لديها حقًا حصريًا في إمدادات الثلج بما أن حاكم البحرين، الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، قد باعها حصته في مصنع ثلجٍ أسسه مع يوسف لطف على خنجي. طعن يوسف في هذا الادعاء، بما أن ملكية نصف المصنع كانت ما تزال في يده. وما إن تخلت البلدية عن احتكارها سنة ١٩٣٧، حتى واجه السكان نقصًا في الثلج مع اعتمادهم المتزايد عليه. ولكن بحلول الأربعينيات، كانت هناك منافسة قوية بين صانعي الثلج، مع وجود اتهامات ببيع الثلج في السوق السوداء بأسعارٍ أعلى مما حددته بلدية المنامة.

سلعة ضرورية

اتضحت أهمية الثلج خلال الحرب العالمية الأولى. فأثناء الحرب، تأسست لجنة لتحري نقاط الضعف في العمليات العسكرية البريطانية في بلاد الرافدين، وقد وصفت اللجنة نقص الثلج بأنه "أمرٌ جاد نحوًا ما". اعتُبر الثلج ضروريًا، ليس لرفاهية الجنود البريطانيين فحسب، ولكن لعلاج حالاتٍ قد تؤدي إلى الوفاة مثل ضربة الشمس.

مقتطف من تقرير لجنة تحري العمليات في بلاد الرافدين برئاسة اللورد جورج هاميلتون، وزير الخارجية السابق للهند، حُرِّر سنة ١٩١٦ واستُخدم في تقرير فنسنت-بينجلي. IOR/L/PS/20/257، ص. ٣٤و
مقتطف من تقرير لجنة تحري العمليات في بلاد الرافدين برئاسة اللورد جورج هاميلتون، وزير الخارجية السابق للهند، حُرِّر سنة ١٩١٦ واستُخدم في تقرير فنسنت-بينجلي. IOR/L/PS/20/257، ص. ٣٤و

كان الثلج يؤدي نفس الغرض على متن السفن البخارية، حيث كان من الممكن أن تتسبب درجات الحرارة العالية في انهيار الوقّادين وكان الثلج مطلوبًا لإنعاشهم. وعلى متن السفن الحربية، كانت مخازن الذخيرة وأبراج المدافع عرضةً للحرارة الزائدة ولذا كان الثلج يُستخدم لتبريد هذه الأجزاء. ومع ذلك، حتى بعد تطوير آلات صنع الثلج، لم تحمل السفن البخارية هذه الآلات على متنها، حيث أن الآلات القديمة كانت تعتمد على كيماوياتٍ قابلةٍ للانفجار. وبدلًا من ذلك، كانت السفن تجلب الثلج من الموانئ، مثل ميناء عدن.

عندما بدأت السفن في حمل آلات الثلج الخاصة بها للأغراض الضرورية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت تقوم بتزويد الموانئ بالثلج لأغراض تتعلق بالرفاهية. تصف إميلي لوريمر ذلك في خطابٍ إلى والديها، وهي خبيرةٌ لغوية كانت تعيش في البحرين برفقة زوجها، الوكيل السياسي مبعوث مدني رسمي من الامبراطورية البريطانية هناك. تخبر لوريمر والديها أن السفينة البريطانية "سفينكس" ترسل إليهم منذ وصولها خمسة أرطالٍ من الثلج يوميًا، وأنها استخدمته لتحضير الجيلي والجَلَنْتين [طبق من اللحم أو السمك البارد] وغيرها من الأطباق المثلجة.

مقتطف من رسالة من إميلي لوريمر إلى والديها، تصف فيها وصول الثلج إلى البحرين، ١٧ يونيو ١٩١٢. Mss Eur D922/1، ص. ٣٠٣و
مقتطف من رسالة من إميلي لوريمر إلى والديها، تصف فيها وصول الثلج إلى البحرين، ١٧ يونيو ١٩١٢. Mss Eur D922/1، ص. ٣٠٣و

ولكن بحلول العقد الرابع من القرن العشرين، اعتُبر إنتاج الثلج أمرًا ضروريًا. في سنة ١٩٣٦، كانت شركة بريم للفحم، التي أدارت جميع الخدمات على جزيرة بريم بما في ذلك مصنع الثلج، تدرس ترك الجزيرة. أثار ذلك نقاشاتٍ مطولة حول الخدمات التي سيضطر المسؤولون البريطانيون لإدارتها بعد ذلك، واعتُبر أن أهمية إنتاج الثلج توازي أهمية إنتاج الكهرباء. كان مصنع الثلج يحقق أرباحًا صافية للشركة عن طريق إمداد السفن العابرة بالثلج، ولكن بما أن السفن لن تتوقف في بريم بعد انسحاب الشركة، لم يكن المصنع ليدفع كلفة صيانته. ومع ذلك، فقد اتخذ المسؤولون البريطانيون على الجزيرة قرارًا باعتبار المصنع تكلفةٌ ضرورية.

رسالة من المقدّم جوردون لوك، الوكيل السياسي في البحرين، يستفسر فيها عن مصنع الثلج، ١٠ أبريل ١٩٣٧. IOR/R/15/2/1006، ص. ٦٤و
رسالة من المقدّم جوردون لوك، الوكيل السياسي في البحرين، يستفسر فيها عن مصنع الثلج، ١٠ أبريل ١٩٣٧. IOR/R/15/2/1006، ص. ٦٤و

أحدث الثلج كذلك تغييرًا في مجال تجارة الأسماك، حيث أصبح من الممكن حفظ السمك لفتراتٍ أطول ونقله لمسافاتٍ أبعد دون تجفيفه. عندما عطّلت الحرب العالمية الثانية إمدادات اللحوم المعلبة، حاول المسؤولون البريطانيون تعويض ذلك عن طريق تطبيق خطة أسماك طازجة للإبقاء على إمدادات سكان عبادان بالبروتين. إلا أن إمدادات الثلج المحدودة سنة ١٩٤٤ حالت دون توسعة الخطة التي اعتمدت على نقل الأسماك من مصب شط العرب. وعلى النقيض من ذلك، أصدر مجلس المنامة سنة ١٩٤٣ قانونًا يمنع تخزين السمك على الثلج في البحرين بغرض بيعه للاستهلاك العام، وكان الهدف من القانون هو درأ الاكتناز وتلافي نقص الغذاء.

رفاهية

على الرغم من الاستخدامات العملية المتعددة للثلج وانتشاره وانخفاض سعره، ظلت وفرة الثلج علامةً على الرفاهية. فالمناسبات الاجتماعية المبهرجة التي نظمتها إميلي لوريمر ما كانت لتكتمل دون الثلج، حتى وإن لم يتوفر بطريقة أو بأخرى، كانت لوريمر تشتري الثلج الباهظ من الجبال لتستكمل أطباقها المثلجة. كما أن أي تجمعٍ جديرٍ بالاهتمام كان يحتاج الماء المثلج قبل أي وجهٍ آخر من وجوه الرقي. وفي إيران، زيّنت أشكال الثلج المنَكَّهة والشربات المثلجة موائد النزهات الخلوية والمآدب. كان الثلج قيمًا ورمزًا للوجاهة الاجتماعية (لا سيما عند الأوروبيين)، ولكنه كان متوفرًا في منطقة الخليج عبر معظم التاريخ، حتى وإن لم يكن ذلك بكمياتٍ تلبي الإقبال عليه.