عرض عام

في نوفمبر ١٩١٧، أُرسِل سانت جون فيلبي من البصرة لاجتياز الصحراء والالتقاء بعبد العزيز آل سعود، في بعثةٍ غيّرت حياته.

في عام ١٩١٧، كان هاري سانت جون بريدجر فيلبي يعمل في البصرة كمساعد مالي لدى بيرسي كوكس، كبير المسؤولين السياسيين في قوة المشاة الهندية. وفي منتصف أكتوبر، أقنع فيلبي رؤساءه بإرساله كرئيس للبعثة لاجتياز الصحراء من العقير على ساحل الخليج إلى الرياض، حيث كان من المفترض أن يقابل روبرت هاميلتون، الوكيل السياسي مبعوث مدني رسمي من الامبراطورية البريطانية في الكويت، وعبد العزيز آل سعود، أمير نجد والأحساء في وسط الجزيرة العربية.

وكان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود القائد الأبرز في وسط الجزيرة العربية. فقد استحوذ مجددًا على الرياض في عام ١٩٠٢ نيابةً عن والده من خصمه اللدود عبد العزيز بن متعب الرشيد (المعروف بابن رشيد) لتأسيس الدولة السعودية الثالثة. وخلال الحرب العالمية الأولى، كان ابن رشيد متحالفًا مع الدولة العثمانية ضدّ بريطانيا والحلفاء. لذلك كان الهدف الرئيسي من بعثة فيلبي هو خوض نقاش مع عبد العزيز آل سعود بشأن "الإجراء اللازم الذي يمكنه اتخاذه على نحوٍ مفيد ليخدم القضية المشتركة ضد العدو" (IOR/R/15/1/747، ص. ٤ظ). وأدركت بريطانيا أيضًا أهمية المحافظة على علاقات جيّدة مع عبد العزيز آل سعود بحيث يبقى "تابعًا لبريطانيا إلى الأبد" ولا يلجأ إلى العثمانيين (IOR/L/PS/10/387/1، ص. ٦٥ظ). وتمثل هدف أساسي آخر في تحسين العلاقات بين عبد العزيز آل سعود وحسين بن علي الهاشمي، شريف مكة، اللذين جمعتهما علاقة ودية ببريطانيا. وأخيرًا، هدفت البعثة إلى تسوية النزاع بين عبد العزيز آل سعود والشيخ سالم بن مبارك الصباح، حاكم الكويت، ما سيسمح بفرض حصار بريطاني فعّال على العثمانيين وابن رشيد

خريطة تبيّن الطريق التي سلكها فيلبي من العقير إلى جدة باللون الأحمر. IOR/L/PS/10/658، ص. ١٠٣و
خريطة تبيّن الطريق التي سلكها فيلبي من العقير إلى جدة باللون الأحمر. IOR/L/PS/10/658، ص. ١٠٣و

بينما كان فيلبي في طريقه من القاهرة إلى البصرة في شهر مايو، تلقى إحاطة من الرائد جيرترود بيل، وهي أول ضابطة استخبارات عسكرية في الجيش البريطاني. وكانت آنذاك تقدم المشورة للحكومة البريطانية بشأن السياسة في الشرق الأوسط عقب بعثاتها الأثرية والاستخبارية السابقة في العراق، وسوريا، وتركيا، وشبه الجزيرة العربية. وكانت بيل قد أعدّت تقريرًا قبل سنة عن زيارة عبد العزيز آل سعود إلى البصرة، يوضح حيثيات وصوله إلى سدة الحكم وعلاقته ببريطانيا، ما جعلها مخوَّلة بشكل استثنائي لإحاطة فيلبي قبل بعثته.

الشؤون اللوجستية العملية والدبلوماسية

على غرار البعثات الأخرى، تطلّبت البعثة تجهيز الإمدادات والمعدات. وشملت مطالب فيلبي العديدة "عشر علب من الشاي التي تزن رطلًا واحدًا، وثلاثمائة لفافة سيجار شيروت فاخرة، وخمسمائة سيجارة مصرية، ورطلَين من تبغ كابستان" (IOR/R/15/5/66، ص. ٦٨و). وتوثّق السجلّات محاولة فيلبي، التي تكلّلت بالنجاح في نهاية المطاف، تأمين ميزان معدني لقياس الضغط الجوي، وشريط تصوير فوتوغرافي من نوع "كوداك" لجهاز كاميرا كان قد اشتراه في البصرة. وكانت هذه الأدوات ضرورية لتدوين قراءات الضغط الجوي وتسجيل التضاريس.

مقتطف من برقية هاميلتون بشأن المعدات اللازمة لرحلة فيلبي، بما في ذلك التبغ وشريط تصوير من نوع "كوداك"، ٢٣ يوليو ١٩١٨. IOR/R/15/5/66، ص. ٨٠و
مقتطف من برقية هاميلتون بشأن المعدات اللازمة لرحلة فيلبي، بما في ذلك التبغ وشريط تصوير من نوع "كوداك"، ٢٣ يوليو ١٩١٨. IOR/R/15/5/66، ص. ٨٠و

وتلقّى فيلبي أيضًا المساعدة اللوجستية من عبد الله النفيسي، وهو نجدي له مصالح تجارية في الكويت، عمل كوكيل لعبد العزيز آل سعود في البلاد. وكثيرًا ما انخرط النفيسي في صفقات تجارية مع بريطانيا ووفّر مراسيل، مما مهّد الطريق لرحلة فيلبي، وسهّل لاحقًا إمداد بريطانيا لعبد العزيز آل سعود بألف بندقية في سبتمبر ١٩١٨.

رسالة أصلية باللغة العربية من النفيسي، مصحوبة بالترجمة الإنجليزية، بشأن توفير مراسيل خلال رحلة فيلبي، ٢٨ شوال ١٣٣٦ هـ \ ٥ أغسطس ١٩١٨ م. IOR/R/15/5/66، ص. ١١٣و
رسالة أصلية باللغة العربية من النفيسي، مصحوبة بالترجمة الإنجليزية، بشأن توفير مراسيل خلال رحلة فيلبي، ٢٨ شوال ١٣٣٦ هـ \ ٥ أغسطس ١٩١٨ م. IOR/R/15/5/66، ص. ١١٣و

كان تبادل الهدايا الباهظة ممارسةً دبلوماسية معهودة. فما إن وصل فيلبي إلى الهفوف في ٢١ نوفمبر ١٩١٧، حتى طلب من بيرسي لوك، الوكيل السياسي مبعوث مدني رسمي من الامبراطورية البريطانية في البحرين، اثنتي عشرة ساعة ذهبية واثنتي عشرة ساعة فضية، لتُقدم حسبما زُعم إما لأمير المنطقة أو لعبد العزيز آل سعود. وفي العام التالي، كتب فيلبي من الرياض رسالة ذكر فيها أنّ "عبد العزيز آل سعود لديه نقص حاد في الخِيَم" (IOR/R/15/5/66، ص. ١٥٨و)، وطالب بإرسال ستّ خِيَم جيّدة كهدية لعبد العزيز آل سعود وعائلته، وخمسين خيمة إضافية لرجاله. وردّ عبد العزيز آل سعود بتقديم غزالَي مها عربيين كهدية للملك جورج الخامس.

تدوين الملاحظات وجمع "المعرفة الاستعمارية"

تغطي ملاحظات فيلبي ومراسلاته الدقيقة كلًّا من تحضيراته والرحلة إلى المناطق الداخلية للجزيرة. خلال الرحلتَين، أولًا إلى الرياض ثم إلى الطائف، أجرى فيلبي أبحاثًا رائدة لرسم الخرائط، أشار فيها إلى الطوبوغرافيا بشكل مفصّل، وجمع الكثير من "عيّنات الحياة البرية" لقسم التاريخ الطبيعي في المتحف البريطاني (IOR/R/15/2/295، ص. ٢٢٥و). وقام المتحف البريطاني لاحقًا بتسمية نوعٍ مجهول من الطيور آنذاك باسم "حجل فيلبي" (Alectoris philbyi) تيمنًا به. ودوّن أيضًا معلومات عن سكان المناطق التي مرّ بها، مشيرًا على سبيل المثال إلى عدد السكان والتركيب السكاني في الدرعية.

صورة فوتوغرافية لحجل فيلبي (Alectoris philbyi)، التقطها جيم بابينجتون في محيط أبها، المملكة العربية السعودية، يوليو ٢٠١٨. © جيم بابينجتون، ٢٠١٨
صورة فوتوغرافية لحجل فيلبي (Alectoris philbyi)، التقطها جيم بابينجتون في محيط أبها، المملكة العربية السعودية، يوليو ٢٠١٨. © جيم بابينجتون، ٢٠١٨

استمر فيلبي في تدوين الملاحظات بعد وصوله إلى الرياض، وراح يسير بجانب أسوار المدينة ليرسم خريطة للمستوطنة وحدودها الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، أصدر تعليمات للعقيد ف. كونليف-أوين، المستشار العسكري للبعثة، ليُعدّ تقريرًا بشأن كل من الوضع العسكري العام في وسط الجزيرة العربية، وإمكانية أن يشنّ عبد العزيز آل سعود هجومًا ضدّ ابن رشيد على وجه التحديد. وإذا قرأنا هذا الكمّ من المعلومات المجموعة خلال البعثة بعين الفهم المعاصر الناقد للإمبريالية، لاعتبرنا أنها تشكل مجموعة من "المعرفة الاستعمارية"، التي يعرّفها مؤرخ الفنّ فيليب ب. فاجنر على أنها "الأشكال والأدلة المعرفية التي مكّنت المستعمِرين الأوروبيين من الهيمنة على الرعايا المُستعمَرين حول العالم" (ص. ٧٨٣).

حياة حافلة بالسفر في الجزيرة العربية

أرسل فيلبي من الرياض إلى المسؤولين في العراق ما يفيد بأنه كان يخطط للتوجه إلى جدة على ساحل البحر الأحمر، وغادر قبل أن يتمكن رؤساؤه من رفض ذلك. وبعد وصول فيلبي إلى جدة في النهار الأخير لعام ١٩١٧، رفض شريف مكة منحه الإذن بالعودة إلى الرياض، ما دفعه إلى السفر إلى القاهرة حيث أمضى بعض الوقت هناك قبل أن ينطلق في شهر فبراير على متن مركب عائدًا إلى الرياض عبر شرق الجزيرة العربية. قام فيلبي فيما بعد باستكشاف جنوب نجد، بما في ذلك وادي الدواسر، الذي كان طريقًا قديمًا يُستخدم لنقل القهوة من المخا في اليمن إلى داخل الجزيرة. ويتناول تقريره الدقيق معلومات جغرافية، وزراعية، وديموغرافية، وتاريخية، وأخرى عن الأحوال الجوية.

وشكّل هذا بداية حياة حافلة بالسفر لاستكشاف شبه الجزيرة العربية. وعند وفاة فيلبي في بيروت في عام ١٩٦٠، كتب زميله المستكشف ويلفريد ثيسيجر "كوني رحّالةً عربيًا، دومًا ما سأشعر بالفخر بأنني سرتُ على خطاه" (ص. ٥٦٥).