إبحار السفن البخارية: بعثة الفرات لسنة ١٨٣٥-١٨٣٦

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

قبل تأسيس قناة السويس، استكشف المسؤولون البريطانيون في القرن التاسع عشر طريقًا بديلاً بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي.

الخطط والتحضيرات

إلى حين إكمال إنشاء قناة السويس سنة ١٨٦٨، كانت الطريقة الوحيدة الممكنة للتنقل بين أوروبا وشرق آسيا وجنوب شرقها تتم عبر رحلة بحرية طويلة حول رأس الرجاء الصالح (كتلك المسجلة في السلسلة IOR/L/MAR). لم تكن هذه الرحلات طويلة وشاقة فحسب، بل كانت محفوفة بالمخاطر أيضًا. كانت التجارة والاتصالات بين المملكة المتحدة ومستعمراتها ومراكزها التجارية في آسيا والمحيط الهادئ تعتمد على طريقة شديدة التأثر بالأحوال الجوية غير الملائمة، وخلال أوقات الحرب بالأعمال العدائية من قوى بحرية أخرى.

كان الهدف من بعثة الفرات لسنة ١٨٣٥-١٨٣٦ استطلاع إمكانية إنشاء مصلحة تهدف لخدمة السفن البخارية بشكل دائم على نهر الفرات كجزء من طريق بري يصل الخليج بالمتوسط، وبذلك يتم تفادي طريق رأس الرجاء الصالح كليًا. في يوليو ١٨٣٤، أبلغت اللجنة المختارة من البرلمان البريطاني بشأن الملاحة البخارية إلى الهند أنه، وبخلاف الطريق عبر البحر الأحمر إلى السويس، والذي قد تقيده الرياح الموسمية في المحيط الهندي، فإن ملاحة السفن البخارية "ستكون ممكنة بين بومباي والبصرة طوال أشهر السنة" (IOR/L/MAR/C/573، ص. ٧٥ظ). وبالتالي أوصت بمنحة قدرها ٢٠ ألف جنية إسترليني لتحديد إمكانية الملاحة في الفرات خلال أشهر الشتاء

مقدمة تقرير اللجنة المختارة الذي يوصي ببعثة الفرات، ١٨٣٤. IOR/L/MAR/C/573، ص. ٧٥و
مقدمة تقرير اللجنة المختارة الذي يوصي ببعثة الفرات، ١٨٣٤. IOR/L/MAR/C/573، ص. ٧٥و

أقر البرلمان المنحة في أوائل شهر أغسطس، وسرعان ما بدأت التحضيرات للبعثة. أعطيت القيادة للقبطان فرانسيس رودون تشيسني، حيث كان المسح الذي أجراه لمضيق السويس عام ١٨٣٠ ومسح الفرات عام ١٨٣١ من بين الأدلة التي اتخذتها اللجنة المختارة بعين الاعتبار. أما السفينتان البخاريتان المصنوعتان من الحديد، واللتان سميتا دجلة والفرات تيمنًا بالنهرين اللذَين ستعبرانه، فقد تقرر تفكيكهما ونقلهما في شكل قطع على أن يتم تجميعهما عند اللزوم. تلك القطع وكذلك طاقم السفينة غادروا ليفربول على متن السفينة "جورج كاننج" في ٣١ يناير ١٨٣٥، ووصلوا إلى السويدية [تركيا اليوم] في أبريل، ومن ثم سافروا برًا إلى البيرة في تركيا، على ضفاف الفرات، حيث تم تجميع السفينتين البخاريتين والبدء بعملية المسح.

برزخ السويس ونهر الفرات في رسم تفصيلي من خريطة للجزيرة العربية، أعده ويليام هنري بليت. ١٨٤٧. IOR/X/3205، ص. ١و
برزخ السويس ونهر الفرات في رسم تفصيلي من خريطة للجزيرة العربية، أعده ويليام هنري بليت. ١٨٤٧. IOR/X/3205، ص. ١و

الإشراف والعراقيل

ألقيت مسؤولية البعثة مبدئيًا على كاهل مجلس الهند، وهو فرع تابع للحكومة البريطانية الذي أشرف على شركة الهند الشرقية مؤسسة بريطانية كانت تدير المصالح التجارية والعسكرية في الهند وجنوب غرب آسيا . لكن تشيسني كان قد تلقى الأوامر بأن يكون تحت الإمرة المباشرة لحكومة بومباي التي تديرها الشركة عند وصول البعثة إلى البصرة. ولتسهيل نقل هذه المسؤولية، كتب مجلس الهند إلى الشركة في فبراير ١٨٣٥، مقترحًا شراء سفينتين من الحكومة البريطانية. ولم ترفض الشركة هذا المقترح فحسب، بل "لم يرغبوا بالمشاركة في البعثة بأي شكل من الأشكال"، والتي جرى التخطيط لها "دون مشاركتهم أو موافقتهم" (IOR/L/MAR/C/573، ص. ٢٩و). وبحلول شهر مايو، تم إقناع الشركة بالمزايا التي من الممكن أن تحصل عليها الهند في ظل وجود خدمة منتظمة على الفرات ووافقت على تقديم سلفة قدرها ٠٠٠ ٥ جنية إسترليني للبعثة. إلا أنهم ظلوا شركاء مترددين، موضحين أنها كانت دفعة لمرة واحدة مقابل امتلاك السفينتين بعد انتهاء البعثة، وحذروا من أن التكلفة الإجمالية لتأسيس الطريق قد "تفوق بكثير أي ميزة قد تنتج عنه" (IOR/L/MAR/C/573، ص. ٥٢ظ).

يقع نهري الفرات ودجلة بأكملهما ضمن الأراضي التابعة للدولة العثمانية، لذلك كان تعاونها مع المشروع ضروريًا. في نوفمبر ١٨٣٤، كتب وزير الخارجية دوق ويلينجتون أن البعثة "يتم القيام بها بإذن من قوة صديقة، والتي لولا دعمها وتعاونها لما أمكن توقع أي نجاح على نحو معقول" (IOR/L/MAR/C/573، ص. ٨٧ظ). قد تكون الحكومة العثمانية منحت موافقتها، لكن في الواقع فإن الحكام المحليين خضعوا لمحمد علي، الحاكم المتمتع بحكم شبه ذاتي لمصر. وفي مراحل مختلفة، لم يُسمح للبعثة بالمرور أو الحصول على المؤن في حالات ضرورية حتى يطلب مسؤول عثماني إذنًا من علي. شك المسؤولون البريطانيون حينئذ في أن ذلك عرقلة متعمدة من علي بتشجيع محتمل من روسيا. افترضت مذكرة غير موقعة مؤرخة في ١٣ يناير ١٨٣٦ أن روسيا قد ترى أن نهر الفرات، وهو مصدر المياه الذي يقع قريبًا من أراضي أرمينيا، هو طريق محتمل لتحدي السلطة البريطانية في الخليج. واقترحت أيضًا أن الوجود البريطاني على النهر من شأنه أن يلغي ذلك الخيار. وبغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحًا أم لا، فإن البعثة قد تعرضت لتأخيرات كبيرة.

مأساة البعثة وإنهائها

في ٢١ مايو ١٨٣٦ تعرضت البعثة لمأساة أشد وطأة بكثير من التأخيرات أو خيبات الأمل. فعندما غادرت السفن موحسن في سوريا، واجهتها عاصفة اتجهت حسب وصف أحد المسؤولين "ناحيتنا باندفاع شديد وبأقصى سرعة دبّت الرعب في النفوس" (IOR/L/MAR/C/574، ص. ١٨٣ظ). استطاع طاقم سفينة الفرات تأمين طريقها إلى الضفة، إلا أن الرياح عصفت بسفينة دجلة إلى منتصف النهر وغرقت في غضون دقائق. وقد أفلح ما يقرب من نصف الطاقم، بمن فيهم تشيسني، في الوصول بصعوبة إلى الشاطئ، لكن عشرون من الرجال ماتوا غرقًا.

رسم لسفينة دجلة قبل غرقها مباشرةً، بريشة القبطان جيمس بوكنال إيستكورت، ١٨٣٦. ملكية عامة
رسم لسفينة دجلة قبل غرقها مباشرةً، بريشة القبطان جيمس بوكنال إيستكورت، ١٨٣٦. ملكية عامة

بحلول يونيو كانت البعثة قد أكملت مسحها لنهر الفرات، أما بقية أشهر السنة فقد استُغرقت في إجراء مسوح استطلاعية على نهري دجلة وكارون. وفي السنة التالية، أصدرت "صحيفة الجمعية الجغرافية الملكية" تقريرًا عن البعثة بقلم تشيسني وزميله ويليام أينزوورث. أعلنت الصحيفة في مقدمتها عن نجاح البعثة، مصرحة بأنه "تم إنجاز كل شيء يمكن البحث عنه إلى حد معقول" (ص. ٤١١). في غضون ذلك، كتب المقيم البريطاني في الخليج العربي أن إنشاء مصلحة دائمة لخدمة السفن البخارية على نهر الفرات "جدير بدراسة معمقة جدًا" (IOR/L/MAR/C/574، ص. ٣٤٢ظ). واقترح كذلك طرقًا تستطيع تقوية الموقف البريطاني في الخليج، ليس فقط بزيادة سرعة المواصلات وكفاءتها، بل بتوسيع الوجود البريطاني البحري، والذي قد يساعد في قمع ما يُسمى بـ "القرصنة". تم القيام بعمليات استكشافية في أربعينيات القرن التاسع عشر، لكن في عام ١٨٥٤ بدأت التحضيرات لإنشاء قناة السويس ولم يبصر أي طريق بري رسمي بين المتوسط والخليج النور مطلقًا.

أبعاد كل من السفينتين البخاريتين وطاقميهما، من تقرير تشيسني الرسمي عن البعثة، ١٨٥٠. IOL.1947.c.142، ص. xiii
أبعاد كل من السفينتين البخاريتين وطاقميهما، من تقرير تشيسني الرسمي عن البعثة، ١٨٥٠. IOL.1947.c.142، ص. xiii