عرض عام
كان الشيخ عيسى بن طريف آل بن علي من شيوخ الخليج البارزين في مطلع القرن التاسع عشر. وقد وصفه جون لوريمر بالقائد "الجريء المفعم بالحماس" و"المحب للمغامرة". ولد عيسى بن طريف في قطر في الزبارة في ١٧٩٠ على وجه التقدير، وفي منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر أصبح شيخًا لقبيلة آل بن علي، وهي فرع في حلف قبائل العتوب (أو بني عتبة) الشهيرة التي تضم قبائل آل صباح في الكويت وآل خليفة في البحرين والجلاهمة في خور حسن (الخوير الآن) والرويس في شمال قطر. كانت قبيلة آل بن علي من القبائل "العربية البحرية" التي كانت تجوب البحار بدلاً من الصحاري. وكانت مهنة أفرادها الملاحة البحرية والغوص بحثًا عن اللؤلؤ والتجارة مع الهند وأفريقيا. وكانت سفنهم الشراعية ( الداو مصطلح اعتمده المسؤولون البريطانيون للإشارة إلى المراكب الشراعية المحلية المستخدمة في غرب المحيط الهندي. ) تحمل علمًا مميزًا من الأشرطة الحمراء والبيضاء الأفقية عرف بالعلم السليمي، وهو مشتق من اسم "آل سليم" وهو اسم آخر اشتهرت به القبيلة، التي عاشت في تجمعات على جانبي الخليج العربي، لكنها تركزت في قطر والبحرين وجزيرة "قيس" قبالة ساحل إيران.
كان عيسى بن طريف في نظر حكام البحرين وأبوظبي وعمان حليفًا مرغوبًا به كثيرًا، وكان صهرًا للشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة (حاكم البحرين من ١٧٩٦ إلى ١٨٤٣). كان عيسى بن طريف واليًا على الحويلة في الساحل الشمالي الشرقي لقطر في وقتٍ ما في عشرينيات القرن التاسع عشر حتى ١٨٣٥، انتقل بعدها هو وقبيلته إلى أبوظبي حتى نهاية ثلاثينيات القرن نفسه. ومن إنجازاته الشهيرة حينذاك استيلائه على حصن يسوع (حصن برتغالي قديم) في مومباسا (في كينيا حاليًا) باسم سلطان عمان وزنجبار، السيد سعيد بن سلطان في عام ١٨٣٧. وفي عام ١٨٣٩، وبعد عودة قبيلة آل بن علي من موسم صيد اللؤلؤ السنوي في سبتمبر بفترة قصيرة، ارتحل عيسى بن طريف مع أفراد قبيلته إلى جزيرة قيس في إيران حيث أصبح حاكمًا لها.
وبعد أربع سنوات، وفور انتهاء موسم صيد اللؤلؤ في ١٨٤٣، ترك عيسى بن طريف وقبيلته (آل بن علي) جزيرة قيس وارتحلوا إلى البدع، حيث انتزعوا حكم البدع (وعلى الأرجح حكم مدينة الدوحة المجاورة) من الشيخ سالمين بن ناصر السويدي، شيخ قبيلة السودان، وأجبره هو وقبيلته على الخروج من قطر. وفي ذلك الوقت، كانت البدع والدوحة مدينتين منفصلتين، يفصلهما نحو نصف ميل (٨٠٠ متر) كما تبين الخريطة التالية من عام ١٨٢٣.
لكل مدينة ميناؤها، وكان ميناء البدع هو الأكبر، وهي المقر الرئيسي لحاكم المنطقة.
عَلِمنا بانتقال عيسى بن طريف إلى البدع من رسالة كتبها إلى النقيب صمويل هينيل، المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ البريطاني في الخليج، في بوشهر على الساحل الإيراني. وقال فيها:
أكتب إليكم لأحيطكم علمًا بأنني تشرفت باستلام رسالتكم الكريمة والطيبة التي تخبرني بوصولكم في هذه الأنحاء. ولقد ابتهجت كثيرًا لما بيننا من صداقة قديمة أدعو الله أن تدوم [...] لقد نزلنا في ساحل قطر ناحية الجنوب في البدع، وأمورنا مستقرة ومحمودة.
ترجم الرسالة أرنولد كمبال، مساعد المقيم في الخليج، لكن الأصل العربي لم يصل إلينا. وتتسم الرسالة بالأسلوب المعتاد للمراسلات الدبلوماسية في ذلك العصر. وكان حكام الخليج آنذاك يضيفون عبارات للثناء والإطراء قد تبدو مبالغًا فيها مقارنة بتقاليد المراسلات في الوقت الحالي. لكن عيسى بن طريف كان يحركه باعث آخر. فبريطانيا هي القوة العالمية العظمى في المنطقة آنذاك، وكان يريد استمالة صمويل هينيل والتقرب إليه. فلو أن الأخير رأى انتقاله إلى البدع تهديدًا مُحتملاً للسلم والاستقرار في قطر، فقد يتخذ إجراءً ضده. وتأتي رسالة عيسى بن طريف في ضوء هذا السياق لتعطينا لمحة عن عالم الدبلوماسية في الخليج في القرن التاسع عشر، وتكشف أنه كان دبلوماسيًا بارعًا ومقنعًا.
نجحت رسالة عيسى بن طريف في تحقيق مقصودها، فقد أبلغ هينيل رؤساءه في بومباي آنذاك بالتطورات الأخيرة في الخليج بأسلوب ينم عن موافقته عليها، قائلاً:
يشرفني أن أرفق لعلم حضرة الحاكم في المجلس ترجمة لرسالة من الشيخ عيسى بن طريف رئيس قبيلة آل علي يعلمني فيها بانتقاله وأتباعه من جزيرة قيس وأنه اتخذ من البدع مقرًا له.
أرى أن هذه الخطوة مرضية من كل الجوانب. فهي تجعل عيسى بن طريف وقبيلته في الجانب العربي من الخط المحظور، وفي الوقت نفسه تضع ميناء البدع (الذي ازدادت صعوبة السيطرة عليه) في رعاية هذا الزعيم، وهو حاكم أثق تمامًا برغبته الصادقة في القضاء على حوادث القرصنة البحرية. فنوايا الشيخ بن طريف تختلف اختلافًا تامًا عن نوايا سالمين بن ناصر السويدي، شيخ البدع السابق، الذي لم أكن أثق فيه كثيرًا، ولدي مبررات قوية ووجيهة للاعتقاد بأنه كان يحمي الناهبون سرًا ويشجعهم، ولم يتردد في مشاركتهم في اقتسام الغنائم التي استولوا عليها بوسائل غير مشروعة.
"الخط المحظور" الذي أشار إليه هينيل هو خط حدودي فرضته بريطانيا في عام ١٨٣٦ للفصل بين الجانبين العربي والإيراني في الخليج. فقد كان محظورًا على حكام البحرين وقطر والساحل المتصالح (الإمارات العربية المتحدة الآن) الانخراط في أي حروب بحرية أو الإغارة على شمال الخط وذلك لحماية مسارات الملاحة الدولية قبالة الساحل الإيراني، وهي مسارات كانت السفن البريطانية الهندية تسلكها باستمرار.
لم تشهد فترة ولاية عيسى بن طريف على البدع والدوحة أي اضطرابات حتى أصبح طرفًا في معركة خلافة على الحكم في البحرين في عام ١٨٤٧. ففي ذلك العام، حاول مساعدة صهره الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة على استعادة حكم البحرين. فما كان من حاكم البحرين الجديد الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة إلا أن أبحر إلى قطر بقوة عسكرية لمواجهة عيسى بن طريف. وفي ١٧ نوفمبر ١٨٤٧، اشتبك الجانبان في أم الصوية (أم سوية) بالقرب من الخور (أو فويرط في بعض الروايات). وأسفرت المعركة التي استمرت نصف يوم عن مصرع عيسى بن طريف إلى جانب ٨٠ من رجاله على أرض المعركة. وعقب المعركة، عاد سالمين بن ناصر السويدي إلى حكم البدع والدوحة مرة أخرى لكن حكمه لم يدم طويلاً. فبحلول عام ١٨٥٠ أو ربما قبل ذلك، حل محله حاكم فويرط الشيخ محمد بن ثاني، ومن هنا كانت بداية سطوع نجم عائلة آل ثاني التي تولّت بعد ذلك حكم قطر بأكملها.