عرض عام
"مسؤول تركي"، "تاجر مرموق"، "عبد شركسي"، "مؤذن للصلاة": العناوين المدّونة أسفل الصور الواردة في كتاب Bilder-Atlas zu Mekka [أطلس صور من مكة] للمستشرق الهولندي كريستيان سنوك هرخرونيه تحاول وصف المجتمع في مكة في ثمانينيات القرن التاسع عشر من ناحية هيكلية وطبقية.
غير أن العديد من الصور الموجودة في هذا الألبوم لم يقم سنوك هرخرونيه بالتقاطها بنفسه، بل التقطها شريك عمله السيد عبد الغفار. وعلاوة على ذلك، فإن سنوك هرخرونيه قد قام بإدخال تعديلات على بعض الصور الفوتوغرافية التي التقطها عبد الغفار قبل النشر، مستخدمًا المرسام لإزالة الخلفيات المُزيّنة ومحو التذييلات التي تصف الأشخاص.
وتكشف إزالة تلك العناصر عن فارق جوهري بين منهج عبد الغفار ومنهج سنوك هرخرونيه فيما يتعلق بتصويرالبورتريه. كما تثير التساؤل عما إذا كان الاستقبال المعاصر لتلك الصور في أوروبا سنة ١٨٨٨ سيختلف إذا كان قد تم الاحتفاظ بالصور في شكلها الأصلي.
فن التصوير وبناء الحقائق
كان سنوك هرخرونيه بوصفه مصورًا فوتوغرافيًا غربيًا يسعى إلى توثيق"الشرقيين"، ولم يكن مهتمًا بنوع الصور التي يكون فيها الجالس مشاركًا أو مساهمًا في الصورة، وذلك من خلال تحديد طريقة جلوس أو وقوف الشخص موضوع الصورة، وملابسه والدعامات والأشياء الخاصة به. وهذا الإسلوب يثير التوتر بين المصوّر والشخص موضوع الصورة حيث تزيد أو تنقص درجة تحكم كل منهما في جلسة التصويرفي اتجاه معاكس للآخر: فكلما زاد تحكم المصوّر في الجلسة، كان تأثير الجالس أقل، والعكس.
وقد اعتبر سنوك هرخرونيه نفسه مراقبًا محايدًا - مماثلاً للمصوّرين التسجيليين الحاليّين. وفضلاً عن ذلك، فقد انصبّ اهتمامه على إنتاج سجل موسوعي عن الحياة في مكة. وكانت صوره تشكِّل سجلاً بصريًا يدعم كتاباته عن المجتمع المكّي وتمثل بصورة عامة دليلاً على حيادية الدراسة الغربية الإثنوغرافية.
الحيادية وتصوير البورتريه الإثنوغرافي
تنكر نظرية حيادية التصوير الإثنوغرافي مفهوم "بناء الحقائق"، وذلك من خلال إضفاء صفة علمية على الصور الإثنوغرافية. وتُعرف الصور التي تقيس أجزاء الجسم البشري بالصور الأنثروبومترية: فتظهر الأدوات والأجهزة، مثل المِسماك وعصيّ القياس، في الصور إلى جانب الشخص موضوع الصورة. أو يتم تصوير الشخص أمام "شبكة لامبري"، وهي عبارة عن لوحة سوداء مقسمة إلى مربعات منتظمة مقاس بوصتين تفصلهما خيوط عمودية وأفقية.
لم يستخدم سنوك هرخرونيه تلك الوضعيات أو الدعامات الأنثروبومترية في الصور التي التقطها للحجاج في جدة لأنه لم يرغب في الكشف عن نواياه للجالسين للتصوير، كما "تعمّد عدم البوح بأي شيء بشأن اهتماماته الأكاديمية معتقدًا أن العرب، وفقًا للمعايير الغربية، لا يستوعبون أو يقدرون أهمية البحث"، وذلك ووفقًا لما ذكره دوركيه فان دير فال. كما لم يهمه تصوير الجالسين مع الدعامات التي تشير إلى عصريتهم أو شخصيتهم أو تعرضهم للثقافة الغربية. إذ من شأن ذلك أن يصطدم مع محاولته تصوير الحياة في مكة باعتبارها "مجتمعًا متفردًا".
كان سنوك هرخرونيه مهتمًا بتصوير "الأنماط" وليس الأفراد، حيث كتب "كان شغلي الشاغل طوال الأسابيع القليلة الماضية هو استجواب أولئك الأشخاص […] إذا ما كانوا نمطيين بالقدر الكافي لتصويرهم". فالمصور الإثنوغرافي لم يكن ليهتم بصورة بورتريه تحمل اسم شخص بعينه من أهل مكة ولكنه يهتم بصورة عامة لبائع الحلوى.. ويكمن الفارق هنا في التحول من تصوير الأفراد إلى تصوير الأنماط الاجتماعية: فبائع الحلوى هو جزء من الزمان والمكان، لكن الصورة النمطية تخرجه من سياقه إلى الحد الذي تفقد معه شخصيته أي صلة بالصورة.
أسلوب عبد الغفار
وعلى خلاف سنوك هرخرونيه، كان عبد الغفار مهتمًا بإنتاج صور بورتريه عالية الجودة لأغراض تجارية، لا سيّما وأن من بين عملائه شخصيات مرموقة مثل الشريف عون الرفيق. فكان يصوّر الجالسين للتصوير كأفراد يقفون على سجّاد فاخر أمام خلفيات مزخرفة ومطلية أو محاطين بالدعامات التي توضح نسبة ثراء وعصرية الأفراد. ولكن عندما أرسل عبد الغفار تلك الصور إلى سنوك هيرخرونيه، شعر الأخير بأن عليه أن يتدخل.
لم يُفصح سنوك هرخرونيه قط عن كيفية اعتزامه عرض الصور التي أرسلها له عبد الغفار؛ وذلك ربما لأنه أدرك أن المهتمين بحماية أكثر المدن الإسلامية قداسة لربما ستزعجهم فكرة إخراج "أطلس" موسوعي عن مكة للنشر في الغرب. غير أن إصراره على إخفاء النية وراء صوره جلب له المتاعب. فقد سعى إلى التقاط "صور بورتريه جيدة للأجناس والشعوب من كل نوع" لكن إقناع عبد الغفار بتصوير العبيد والنساء والطبقات الدنيا لم يكن سهلًا، وكان هؤلاء أنفسهم رافضين لفكرة الجلوس للتصوير. ، وذلك فقًا للمراسلات بين الرجلين.
إن قيام عبد الغفار بإدارة استوديو قبل وصول سنوك هرخرونيه يكشف عن وجود سوق لصور البورتريه في حقبة الثمانينيات من القرن التاسع عشر بمكة، على الأرجح بين أوساط النخبة الليبرالية المهتمة بالتصوير. وقد جاءت صور عبد الغفار في هذا الكتاب هجينًا بين تطور فن التصوير العثماني من ناحية ومتطلبات سنوك هرخرونيه ("[صور] خالية من أواني الزهور والكتب، وما إلى ذلك") الخاصة بالتصوير الإثنوغرافي من ناحية أخرى، حيث جُجبت أسماء الاشخاص في تذييلات الصور وراء عناوين الصور العامة التي حولت الأفراد إلى نماذج نمطية: "رجل مخصيّ"، "منادي ووسيط"، "بائع حلوى".