عرض عام
تاريخ صناعة الورق وبداية تطورها
يضج مجال حفظ المواد بالنقاشات حول العلامات المائية في الورق، ويركز معظمها على استخدام العلامات المائية كمؤشرٍ محتمل لتاريخ المادة ومنشأها. ولكن قلما تتناول هذه النقاشات أصل التصاميم ذاتها. يمكننا أن نقتفي أثر أقدم العلامات المائية التي نعرفها إلى إيطاليا في أواخر القرن الثالث عشر، حيث تشير السجلات إلى أن الهدف الأساسي منها كان لبيان أن الورق مصنّع محليًا وليس مستوردًا. وبالوصول إلى القرن التاسع عشر، نجد أن ممارسة إضفاء العلامات المائية على الورق قد انتشرت، كما بدأ إنتاجها يتخذ شكلًا صناعيًا. في هذه الفترة، شاع أن تتضمن العلامات المائية تركيبة مؤلفة من اسم مصنع الورق أو رمزه (فيما يشبه العلامة التجارية)، وتاريخ، واسم صنّاع الورق أنفسهم أو الحروف الأولى من أسمائهم. إلا أن العلامات المائية المبكرة التي أنتجها روّاد هذا المجال كانت مختلفة.
امتدت تقنيات صناعة الورق التي ابتكرها الصينيون إلى العالم العربي منذ القرن الثامن الميلادي، ثم نقلها مسلمو شمال أفريقيا إلى أسبانيا. وسرعان ما تبنى الأوروبيون في أنحاء القارة هذه الممارسات، وأصبحت إيطاليا أحد أبرز مراكز الإنتاج الأولى. حيث أن سهولة الوصول للطاقة المائية مكّنت الإيطاليين من إنتاج الورق بأثمانٍ زهيدة، وبحلول القرن الرابع عشر شاع تداول هذا الورق والمتاجرة به في العالم الإسلامي.
لا تظهر العلامات المائية في الورق القديم المصنوع في العالم العربي، كما يختلف هذا الورق عن الورق الأوروبي في مظهره وتركيبه. ومن بين أبرز الاختلافات في أسلوب الإنتاج، استخدام المواد العضوية عوضًا عن السلك لصناعة الشبك الرقيق الذي يتشكل عليه فرخ الورق. يعلل هذا الأسلوب الاختلافَ الجلي في مظهر الخطوط العرضية والمتعامدة، كما أنه لا يتيح إضافة العلامات المائية (التي تُصنع من أسلاك رقيقة) إلى القوالب. ومع ذلك، فإن بعض الأوراق المصنوعة بهذا الأسلوب في أسبانيا خلال القرن الثالث عشر تحمل علامة في هيئة خطوط متعرجة لا بد وأنها أضيفت للورق قبل أن يجف. ولئن كان الهدف من هذه العلامات يبقى غير معروف، إلا أنه أُشير إليها على انها السلف المحتمل للتصاميم المائية. ومن الممكن أن تكون هذه الخطوط المتعرجة قد أضيفت لبيان اتجاه التعريق في الورق، إلا أن آخر الأبحاث يرجح أنها استُخدمت لتخفيف الورق في الأماكن التي سيُطوى فيها بغرض التقليل من تضخم كعب الكتاب عند تجليد الأوراق.
أما العلامات المائية كتلك التي نراها اليوم، فإن الفضل في تنفيذها يعود إلى تبني الإيطاليين لتقنيات صناعة الورق من العالم العربي وتطويرهم لها. تُظهر أقدم التصاميم رموزًا تتعلق بالأرقام العربية الشرقية القديمة، ثم استُبدلت لاحقًا بتصاميم أخرى مثل تصميم المرساة الإيطالية، وبعدها صورة "الأهلة الثلاثة" التي شاع استخدامها في الورق المصنّع للتصدير إلى العالم العربي.
السياق التاريخي والاستخدامات الأولى
حتى ندرك جذور التصاميم الأولى للعلامات المائية، يتعين علينا وضعها في سياق إطار الحقبة الزمنية التي تطورت فيها. خلال القرون الوسطى، كانت ورش الحرفيين والتجار في أنحاء أوروبا منظمةً في هيئة رابطات. تأسست رابطات صناعة الورق في القرن الرابع عشر، حيث بدأت كملحقات برابطات الصوف. وكغيرهم من عمال هذه الفترة، كان مطلوب من صنّاع الورق أن يضيفوا إلى منتجاتهم علامتهم المميزة المسجلة في السجل الرسمي للرابطة. كانت مدينة فابريانو في إيطاليا واحدةً من أولى المراكز لتوزيع الورق في أنحاء أوروبا ولنقل تقنيات صناعة الورق من العالم العربي. كما كانت هذه المدينة منشأ العلامة المائية وموطن مجموعة الورق التاريخية لأوجوستو زونغي، التي تضم ورقًا صنع في فابريانو بين ١٢٦٧-١٧٩٨. وتتضمن الوثائق المحفوظة في "الأرشيف التاريخي" [أركيفيو ستوريكو] في فابريانو سجلًا لرابطة الصوف يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر ويحتوي على قائمة بأسماء أعضاء الرابطة مع العلامة الفريدة التي تميز كلًا منهم. ويوجد تشابه كبير بين الرموز أو العلامات التي كان يستخدمها عمال رابطة الصوف في القرن الرابع عشر والعلامات المائية المستخدمة في نفس الفترة. كما أن أقدم المخطوطات في مجموعة زونغي تحمل علامات مائية مستوحاة من الصناعات التي تتعلق بها؛ على سبيل المثال، توجد علامة مائية في صورة عجلة غزل في سجل رابطة القماش.
وأحيانًا، كانت العلامات المائية المبكرة تُظهر الأسماء الكاملة لصنّاع الورق ولكنها استُبدلت فيما بعد بتصاميم تمثلهم، مثل شكل "القبعات الثلاث" الذي يشبه الأطباق الطائرة (أنظر أعلاه). وكما هو الحال في الشعارات الأخرى، تبنت العلامات المائية اللاحقة صورًا إبداعية، من بينها الحيوانات والرموز الدينية والأدوات. في القرن الخامس عشر، أصبحت فابريانو نفسها دولةً كنسية، ومن ثمّ شاع استخدام الشعار الباباوي كعلامةٍ مائية. كما اعتادت الأديرة في المنطقة تأجير مبانيها لعمال صناعة الورق وظلت على صلة وثيقة بهذه الحرفة. لذا، ليس غريبًا أن يحمل الورق المصنّع في دير مونيفانو البندكتي في فابريانو علامات مائية بشعار النظام البندكتي المتمثل في ثلاثة تلال.
تطورات أخرى
وعلى نفس النحو، تزايدت احتمالية استخدام شعارات العائلات الأرستقراطية كعلامات مائية في مصانع الورق التي كانوا يملكونها أو يرعونها. في كتابها الأخير "فابريانو: مدينة صناعة الورق في العصور الوسطى وعصر النهضة"، تشير سيلفيا رودجرز ألبرو إلى أن تراث استخدام الشعارات الذي يقترن عادةً بالعلامات المائية الأحدث قد نجم في الواقع عن المعارك بين الفرسان الأوروبيين والقوات التركية والعربية. حيث استخدم الأتراك والعرب دروعًا عليها شعارات تميزهم، وبحلول القرن الثالث عشر كان معظم نبلاء أوروبا قد تبنوا تقليدًا مماثلًا في استخدام الشعارات.
ومن ثمّ، انتشر هذا التقليد إلى المنظمات الدينية والأنظمة الرهبانية والتجار والحرفيين والرابطات.
وبالنظر إلى هذه النماذج المبكرة في سياقها، يتسنى لنا أن نرى العلاقة المحتملة بين أصول تصاميم العلامات المائية وصور الرابطات والرموز المميزة لصنّاع الورق.
لم يكن تنظيم التجارة هو الدور الوحيد الذي قامت به رابطات الحرفيين، حيث كانت لها وظائف دينية أيضًا. ولذا ليس من الغريب أن تتضمن شعاراتهم مزيجًا من الصور الدينية والرموز المتعلقة بالجوانب الدنيوية أو الدلالية لعمل الرابطة.
إلا أن هناك بعض النظريات غير التقليدية حول جذور العلامات المائية، منها كتاب "لغة الرمزية المفقودة" (١٩١٢) من تأليف هارولد بايلي. حيث يربط بايلي النظام الرمزي للعلامات المائية، بل وصناعة الورق نفسها، بالطوائف التي يكتنفها الغموض والزهد والتي انتشرت في أوروبا خلال العصور الوسطى. يدعي بايلي أن صناعة الورق كانت من الصناعات الأكثر تطورًا لدى منظماتٍ مثل الألبيجينيين والفودوا في فرنسا، والكاثار والباتارين في إيطاليا. كما يجادل أن هذه الطوائف "الهرطقية" تبنت تصاميم العلامات المائية لأهميتها الرمزية واستخدمتها كنوعٍ من الدعاية الدينية بواسطة الشعارات.
ما لا شك فيه هو أن تطوير أشكالٍ بصرية للتواصل في زمنٍ قلّ فيه من يستطيعون القراءة والكتابة كان أمرًا ضروريًا، وقد شاع استخدام هذه الأشكال البصرية في أشياء متنوعة مثل لافتات الحانات والفنادق، والأختام، ورموز الرابطات. لقد ترادفت أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة مع استخدام الصور الرمزية والاستعارية حتى تغلغل تأثيرها إلى نسيج الورق الذي رُسمت عليه.