عرض عام
قطع المخروط
كان أبلونيوس البرغاوي (في أواخر القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميلاد) بمثابة الوريث الفكري للتقاليد الهلنستية في الهندسة اليونانية، سائرًا على خطى إقليدس (في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد) وأرشميدس (القرن الثالث قبل الميلاد). ويُقال أنه درس مع طلاب إقليدس في الإسكندرية، في شمال دلتا النيل، ومن هذا المكان قام بوضع نظرية جديدة أكثر عمومية في نظرية المخروط عن طريق قطع المخاريط اعتباطيًا باستخدام مقاطع سطحية واستخدام هندسة ما يسمى بالمقاطع المخروطية لتحديد الخصائص الحسابية لمنحنيات القطع المكافئ والقطع الناقص والقطع الزائد والتي قام أيضًا بتسميتها.
وقد دُوَّن هذا العمل في بحث يتألف من ثمانية كتب، تُعرَف بشكل مبسط بكتاب أبلونيوس في المخروطات، كان المقصد منها أن تُضيف إلى نظرية المخروط كما أضاف كتاب أصول إقليدس إلى نظرية الهندسة المستوية. وضعت الكتب الأربعة الأولى أساسيات نظرية المخروط في حين طُورت الطرق الثلاثة التالية لاستخدام خصائص هذه المنحنيات في حل المسائل الهندسية التي لم تتمكن نظريات الهندسة المستوية (أي الهندسة الإقليدية) من حلّها، ولكن للأسف فُقد الكتاب الثامن الذي حل فيه أبولونيوس العديد من المسائل. وفي واقع الأمر ، أثار فقدان هذا الكتاب خيال عدد من علماء الرياضيات على مدى القرون؛ فقد كتب ابن الهيثم (٩٦٥ إلى ١٠٤٠ م تقريبًا) <مقالة في تمام كتاب المخروطات> في منتصف حياته، كما قام إدموند هالي (١٦٥٦-١٧٤٢م) بضم صياغته الخاصة من الكتاب الثامن إلى ترجمته اللاتينية للنصوص العربية واليونانية في سنة ١٧١٠.
إلا أن صعوبة كتاب المخروطات قد أدت إلى نُدرة دراسته في العصور اليونانية الرومانية القديمة، والنسخة اليونانية الوحيدة الباقية من النص هي للكتب الأربعة الأولى بقلم أوطوقيوس العسقلاني (أواخر القرن الرابع - أوائل القرن الخامس ميلاديًا). ومن ثم، فإن أهمية الترجمة العربية كانت أساسية ليس فقط بالنسبة لعلماء الرياضيات الإسلاميين الذين سعوا إلى دفع نظرية المخروطات إلى تطبيقات جديدة، مثل استخدامها في حل معادلات الدرجة الثالثة، بل أيضًا بالنسبة لفهمنا نحن لنظرية أبلونيوس الأصلية.
الترجمة كمشروع تعاوني
تُرجم كتاب في المخروطات لأبلونيوس على مدى سنوات أو عقود على يد مجموعة من العلماء المقيمين في بغداد. وقد قدم لنا بنو موسى— وهم محمد وأحمد والحسن (عاشوا في القرن التاسع الميلادي) – في مقدمة تلك الترجمة واحدًا من أكثر التقارير تفصيلًا عن ممارسات المترجمين في العصر العباسي.
يبدأ بنو موسى بالإشارة إلى نُدرة الاستعانة بهذا النص حتى في العصور القديمة وقلة الإلمام به، حتى أنه قبل وقت أوطوقيوس كان قد تعرض لتحريفات كثيرة، وهذا في رأيهم هو قدر كل الدراسات الصعبة. ثم قام أوطوقيوس بإصلاح الكتب الأربعة الأولى مستخدمًا أساليب يثني عليها بنو موسى ولكن دون أن يفسروها. ومع ذلك، فإنهم يؤكدون أن علم الهندسة كان في حال يُرثى له في زمانهم حتى أن لم يفقه أساسيات هندسة إقليدس سوى قليلين.
وبطريقة أو بأخرى حصل بنو موسى على مخطوطة باللغة اليونانية لنسخة سبقت تصحيحات أوطقيوس. ويروون أنهم حاولوا ترجمة النص ودراسته ولكن بما أنهم لم يكونوا على دراية باللغة اليونانية، فلابد من وجود شركاء في المحاولة لم يُكشف عن أسمائهم. ولم يتمكنوا في بادئ الأمر من إحراز أي تقدم نتيجة للتحريف الشديد الذي تعرض له النص. في واقع الأمر لم يأت أول تقدم كبير من المصدر اليوناني بل من خلال بحث أصلي قام به الحسن بن موسى في علم الحساب. فعن طريق دراسة تقاطع أسطوانة مع سطح مستو، تمكن من بيان أن المقطع يشكّل قطعًا ناقصًا وأثبت خصائصه وأثبت كذلك أن المنحنى يعد مقطعًا مخروطيًا. وتوفى الحسن بعد فترة وجيزة من كتابة دراسة عن النتائج التي توصل إليها.
ثم جاء مزيد من التقدم بطريق الصدفة عندما ابتُعث أحمد بن موسى إلى سوريا للإشراف على البريد. واكتشف أثناء وجوده هناك نسخة من تصحيحات أُوطوقيوس يُعتقد أنها كانت مصحوبة بتعقيبات الأخير. درس أحمد هذا المصدر ودوَّن تعقيبه الخاص، ويُعتقد أن ذلك أيضًا كان بمعاونة متحدثين باللغة اليونانية. وعلى هذا الأساس استطاع أن يستكمل دراسة الكتب المتبقية فور عودته إلى بغداد. وفضلًا عن ذلك أضاف مراجع داخلية للنص لجعله أكثر وضوحًا وهو أمر لم يفعله أحد من قبل. ويخبرنا بنو موسى في المقدمة أن هلال بن أبي هلال (القرن التاسع الميلادي) قد ترجم الكتب الأربعة الأولى، في حين ترجم ثابت بن قرة (٨٣٠-٩٠١) الثلاثة كتب الأخيرة.
تلاقي العقول
جرى مشروع ترجمة كتاب أبلونيوس في زمان ومكان مثيرين، وفي سياق اجتمعت فيه جهود العديد من أهل الكتاب (يهود ومسيحيين ومسلمين وصابئين) من خلفيات عِرقية ولغوية مختلفة من أجل جمع وترجمة وتنقيح كل ما أمكن العثور عليه من العلوم المتراكمة من كل أرجاء العالم بُغية إرساء الأسس لتنميتها وتطويرها.
تشير مثل هذه التقارير المفصّلة عن عملية الترجمة، والتي يندر وجودها في المصادر المتاحة، إلى أن ترجمة الأعمال العلمية المعقدة كانت عملًا جماعيًا يستغرق سنوات عديدة ويتطلب دراسة دؤوبة لمصادر المخطوطات ويعتمد على تضافر جهود أشخاص مختلفين يساهم كل منهم بإمكاناته العلمية واللغوية.