عرض عام
واليوم، هناك ثلاث ترجمات لاتينية مشهورة منذ العصور الوسطى لكتاب المجسطي، منها اثنان من اللغة العربية وواحدة من اليونانية. وقد صدرت الترجمات الثلاثة خلال فترة قصيرة نسبيًا من منتصف القرن الثاني عشر إلى أواخره، ولكن صدرت كل نسخة بشكل مستقل عن غيرها، وفي ظل ظروف مختلفة، وفي جزء مختلف من العالم المطل على البحر المتوسط. وعلاوة على ذلك، تستند كل نسخة من هذه النسخ إلى مصدر مختلف من التراث، ولها درجات متفاوتة من التأثير في أوروبا.
صدرت النسخة اللاتينية الأولى من كتاب المجسطي في الدول الصليبية، وتحديدًا في إمارة أنطاكية، وذلك في أواخر النصف الأول من القرن الثاني عشر. وتستند هذه النسخة إلى التراث العربي لكتاب المجسطي، وهو منسوب إلى عالم الرياضيات ثابت بن قُرّة، الذي عاش في القرن التاسع عشر، ولا يُعرف من الكتاب اليوم سوى أجزاء متفرقة. وقد يكون المترجِم من اللغة اللاتينية، عبد المسيح وينتونينزيس [Ebdelmessie Wintoniensis] (نسبة إلى ونشستر)، من العرب المسيحيين، كما ترتبط ترجمته بأعمال مترجم آخر من اللغة العربية، وهو ستيفن من أنطاكية. ويشير هذا الارتباط إلى وجود تنسيق بين أنشطة الترجمة العربية اللاتينية التي كانت تجري في سوريا، حيث أُتيحت الفرصة للعلماء الغربيين للتعاون مع الخبراء المحليين. ونلاحظ أن ترجمة عبد المسيح تعيد الصياغات العربية عن كثب، ولكن مع ذلك يمكن قراءاتها بسهولة للغاية، بالإضافة إلى دقتها من الناحية الفنية. وتتضمن جوانب الإبداع في هذا النص مصطلحات لاتينية متسقة، تتلافى أي ترجمة صوتية (نقحرة) للمصطلحات الفنية العربية، فضلًا عن نظام الأرقام الفريد. وعلى الرغم من الجودة الفائقة التي اتسمت بها ترجمة عبد المسيح لكتاب المجسطي، فهي لم تحظَ برواج كبير في أوروبا. وعلى ذلك، لم يبقَ من هذه الترجمة سوى نسخة وحيدة غير مكتملة منذ سنة ١٣٠٠ ميلاديًا تقريبًا (وهي موجودة الآن في مدينة درسدن)، ولم يُلاحظ تأثر مؤلفي وكُتّاب القرون الوسطى الآخرين بهذه الترجمة.
وأعقبت نسخة عبد المسيح المُترجَمة من كتاب المجسطي ترجمة أخرى من اليونانية، صدرت في صقلية في أوائل الستينيات من القرن الثاني عشر على الأرجح. ويخبرنا المُترجِم أنه قَدِم من خارج صقلية إلى البلاط النورماندي في باليرمو بعد أن سمع بوصول نسخة من كتاب المجسطي باللغة اليونانية إلى هناك. ويمكن تتبع تنقلات هذه النسخة اللاتينية الثانية من كتاب المجسطي حتى القرن الرابع عشر، غير أن تأثيرها، الذي يبدو أنه أقوى في إيطاليا، ظل محدودًا مرة أخرى. وتوجد ثلاثة مخطوطات للنص اليوم في روما وفلورنسا؛ كما تظهر مقدمة بطليموس وفقًا لهذه النسخة أيضًا في مخطوطة رابعة موجودة الآن في بلدة فولفنبوتل.
أما الترجمة التي أصبحت المرجع القياسي للدراسات الفلكية في أوروبا، فقد كانت أيضًا من اللغة العربية، ونُشرت مع تعديلات مستمرة بين عامي ١١٧٥ و١١٨٥ ميلاديًا. ولابد أن مؤلفها، جيرارد الكريموني، كان لديه على الأقل بعض المفاهيم الأساسية عن كتاب المجسطي، عندما انتقل بدافع "شغفه بكتاب المجسطي" إلى مدينة توليدو، التي تقع في وسط إسبانيا اليوم، لإعداد نسخة باللغة اللاتينية من أعمال بطليموس. وقد كانت مدينة توليدو (طليطلة) مركزًا لتعلم اللغة العربية، حتى انتهاء الحكم الإسلامي في ١٠٨٥ ميلاديًا. وبالإضافة إلى العدد الكبير من المخطوطات العربية التي كانت متاحة في توليدو، تلقى جيرارد مساعدة كبيرة في ترجمته من مستعرب محلي (أي مسيحي مستعرب). وعلى عكس الترجمتين السابقتين، فقد انتشرت نسخة جيرارد من كتاب المجسطي سريعًا في أنحاء أوروبا الغربية. وفي سنة ١٥١٥ م، بعد أكثر من ٣٠٠ عامًا على صدورها، أصبحت هذه النسخة أيضًا أول نسخة من كتاب المجسطي تُتاح في شكل مطبوع.
تتبع نسخة جيرارد اللاتينية الصياغة العربية بشكل كبير، حيث إن العديد من قطع الترجمة يصعب فهمها؛ بسبب الكلمات أو العبارات العربية المتكررة. ويتضح من حَرْفية الترجمة استخدام جيرارد مزيجًا من النسختين العربيتين الأكثر تأثيرًا لكتاب المجسطي، وهما ترجمة الحَجّاج وترجمة إسحاق بن حُنين التي راجعها ثابت بن قُرّة، وقد اتبع جيرارد كل منهما على مدى مقاطع طويلة في الكتاب. وكما يمكن أن نرى، نجد أن التلقي الموحد للتراثين نفسيهما يتضمن أوجه تشابه في اللغة العربية، فعلى سبيل المثال، المخطوطة الموجودة في المكتبة البريطانية بلندن (رقم الاستدعاء: Add. MS 7474) تحتوي المخطوطة على الكتب الأول إلى الخامس من ترجمة الحَجَاج لكتاب المجسطي تكمّلها في أماكن عديدة في الهوامش المقاطع المقابلة من ترجمة إسحاق وثابت.
ما تظهره الترجمات اللاتينية لكتاب المجسطي من سوريا وصقلية وإسبانيا هو أن ترجمات الأعمال العلمية صدرت على الأرجح حيثما أمست المصادر المكتوبة للعلوم "الجديدة" متوفرة، وكان الوسطاء المتخصصون في تلك العلوم متاحين لطلاب العلم في الغرب. كما تثبت أن مواتية الظروف الخارجية كانت في نفس أهمية جودة الترجمة نفسها في نجاح الترجمة. وعلى الرغم من أن مترجمي اللغة اللاتينية من اللغة العربية التزموا بصياغة مصادرهم العربية، فقد تعيّن على كل منهم إعداد مصطلحات لاتينية مناسبة، وبهذه الطريقة نجحوا في تيسير تناول مستقل باللغة اللاتينية لعلم الفلك. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن كتاب المجسطي ومختلف الأعمال المتعلقة به بدأت دراستها على نطاق واسع في أوروبا اللاتينية، فقد استغرق الأمر حتى القرن الخامس عشر ليتطور علم الفلك في أوروبا من مجرد تلقي سلبي لمبادئ بطليموس إلى علم مبتكر وإبداعي وانتقادي.