تقنيات السلطة: سجلات السكك الحديدية وما يمكننا أن نعرفه من خلالها

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

تتطرق سجلات مكتب الهند إلى موضوع السكك الحديدية مرارًا وتكرارًا. فما سر هوس بريطانيا بها؟ وكيف بدلت السكك الحديدية طرق تفكير وحماية وإدارة بريطانيا لإمبراطوريتها؟

قبل أن يصبح اللورد كرزون نائب الملك في الهند (١٨٩٩-١٩٠٥) ووزير الخارجية (١٩١٩-١٩٢٤)، كتب أنه "إذا جُمعت كل المراسلات [المتعلقة بإنشاء السكك الحديدية في بلاد فارس (إيران)] التي أُرسلت من مختلف المفوضيات في طهران إلى كبرى العواصم الأوروبية، لا سيما سان بطرسبرغ ولندن، فإنها يمكن أن توقد نارًا تظل مشتعلةً لأسابيع" (IOR/L/PS/20/C43/1، ص. ٦١٤). ويمكننا قول الأمر عينه عن السكك الحديدية خارج بلاد فارس. كان كرزون نفسه – كونه مسؤولًا استعماريًا متفانيًا – مهتمًا ومضطلعًا بشكلٍ كبير في تطوير السكك الحديدية في أنحاء آسيا الوسطى والأناضول وشبه الجزيرة العربية، نظرًا للوظائف الاستراتيجية والعسكرية التي يمكن أن تؤديها.

مثلت السكك الحديدية ابتكارًا تقنيًا أدى إلى تحولٍ في المفاهيم الدارجة والتجارب الشائعة حول الزمان والمكان، وإعادة تشكيل الاقتصادات الوطنية والعالمية، وإعادة كتابة قواعد الاستراتيجيات العسكرية. ولذلك، كان من المحتم أن تتصدر السكك الحديدية لغة الدبلوماسية والعلاقات الدولية. فعلى مر مائة عام، بين منتصف القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية، كانت القوى الاستعمارية مهووسةً بالسكك الحديدية في آسيا. ومن حسن الحظ أن النار التي تخيلها كرزون لم توقد أبدًا، وأن غالبية المراسلات المتعلقة بدور بريطانيا في هذه المشاريع حُفظت ضمن سجلات مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. .

بيادق في بلاد فارس

منذ إنشاء السكة الحديدية العابرة لسيبيريا سنة ١٨٩١، أصبحت السكك الحديدية بمثابة بيادق في لعبة شطرنج افتراضية بين روسيا وبريطانيا، حيث كانت بلاد فارس محورًا للتنافس الاستراتيجي بينهما في ذلك الوقت. فبالنسبة لبريطانيا، كانت فكرة أن روسيا بإمكانها نقل جيشٍ إلى مشارف المناطق الواقعة تحت السيطرة البريطانية كفيلةً بتغيير طريقة تفكيرها في الدفاع عن إمبراطوريتها. ففي الماضي، كان التفوق البحري هو الاستراتيجية الدفاعية الأهم في منطقةٍ يصعب الوصول إليها برًا من أوروبا. أما مع تحسن الاتصالات والنقل بفضل السكك الحديدية، فقد رأت بريطانيا أن تهديدًا أكبر بكثير يتبلور خلف حدود الهند البرية مباشرةً.

خريطة فهرسية تبين المسارات المقترحة لخطوط السكك الحديدية في بلاد فارس لربط شبكة السكة الحديد في أوروبا بشبكة الهند، ١٩١١. IOR/L/PS/10/307، ص. ١٦٠و
خريطة فهرسية تبين المسارات المقترحة لخطوط السكك الحديدية في بلاد فارس لربط شبكة السكة الحديد في أوروبا بشبكة الهند، ١٩١١. IOR/L/PS/10/307، ص. ١٦٠و

قضت كلٌ من بريطانيا وروسيا غالبية القرن التاسع عشر في التباري على الهيمنة على بلاد فارس فيما سُميّ بـ"اللعبة الكبرى". ومن هذا المنظور، لم تمثل خطوط السكك الحديدية وسيلةً سريعةً للحشد العسكري فحسب، بل اعتُبرت وسيلةً فعالةً لفرض النفوذ السياسي كذلك، لذا فقد سعت كلتا القوتين لمد خطوطهما ابتغاء ذلك. وحتى بعد توقيع المعاهدة الأنجلو-روسية في سنة ١٩٠٧، التي قامت إلى حدٍ ما بتحديد مناطق النفوذ في بلاد فارس، فإن العلاقات والصراعات بين الإمبراطوريتين كانت تُصاغ عبر المفاوضات على السكك الحديدية. وقد اهتم الطرفان بتطويق الوجود الألماني المتنامي في المنطقة، لا سيما الخطط الألمانية لمد خط سكة حديد من بغداد حتى سواحل الخليج.

سكة حديد بغداد

في عام ١٩٠٣، شرعت ألمانيا في العمل على مد خط سكة حديد من قونية إلى بغداد، ومن ثمّ إلى البصرة ووصولًا إلى الخليج. سعت القوتان الألمانية والعثمانية في الحصول على المساعدة البريطانية، إلا أن الآراء في بريطانية كانت منقسمةً بين الموافقة والاعتراض على دعم هذا الامتداد. رأى البعض أن اختراق ألمانيا لبلاد الرافدين [العراق حاليًا] سيكون على حساب النفوذ البريطاني هناك. كما مثّلت إمكانية وصول ألمانيا إلى حقول نفطٍ محتملة في المنطقة مصدر قلقٍ آخر. أما المصدر الرئيسي لمخاوف المسؤولين البريطانيين، فقد كان احتمال إضعاف وضعهم المميز في الخليج، وما يتبع ذلك من تهديدٍ لمصالحهم في الهند. على الجانب الآخر، رأى الكثيرون أن هذا التطور في الاتصالات الدولية أمرٌ لا مفر منه، وأنه من الضروري أن تلعب بريطانيا دورًا رئيسيًا في هذه العملية. 

الحدود بين الخطين الفرنسي والألماني لسكة حديد برلين-بغداد. مكتبة الكونجرس، قسم المطبوعات والصور الفوتوغرافية، واشنطن العاصمة. ملكية عامة
الحدود بين الخطين الفرنسي والألماني لسكة حديد برلين-بغداد. مكتبة الكونجرس، قسم المطبوعات والصور الفوتوغرافية، واشنطن العاصمة. ملكية عامة

نتيجةً لهذا الانقسام، تغيرت السياسة البريطانية الرسمية عدة مرات. اتضح مع الوقت أن اعتقاد البريطانيين بأن المشروع لن ينطلق دون رضاهم كان اعتقادًا واهمًا، وخلال العقد الأول من عمليات الإنشاء، دارت محادثاتٌ كثيرة بين حكومات بريطانيا وألمانيا وتركيا العثمانية وفرنسا وروسيا والمستثمرين الرأسماليين المهتمين من تلك الدول. أدت مخاوف بريطانيا من فقدان نفوذها إلى محاولاتها للسيطرة على أي امتدادٍ للخط إلى سواحل الخليج، وإلى تفاوضها مع السلطات العثمانية على وضع الكويت، مما تمخض عن المعاهدة الأنجلو-عثمانية لسنة ١٩١٣.

صورة فوتوغرافية تُظهر عمليات إنشاء بجانب خط سكة حديد في ميناء البصرة، ١٩١٩. IOR/L/PS/20/35، ص. ٢٤و
صورة فوتوغرافية تُظهر عمليات إنشاء بجانب خط سكة حديد في ميناء البصرة، ١٩١٩. IOR/L/PS/20/35، ص. ٢٤و

السكة الحديد العابرة لشبه الجزيرة العربية

لطالما حلم الاستعماريون البريطانيون بطريقٍ بريٍ إلى الهند يخضع للسيطرة البريطانية. طريقٌ يبدأ عند سواحل البحر المتوسط التي تؤمنها البحرية الملكية، ويعبر مناطق الجزيرة العربية وبلاد فارس التي تهيمن عليها بريطانيا، ويصل إلى حدود الإمبراطورية الهندية إما في كويته أو كراتشي. كان من المتوقع أن يعود هذا الطريق على بريطانيا بمنافع اقتصادية وسياسية واسترايجية. إلا أن الجزء الشرقي من هذا الحلم كان مرتبطًا بالمنافسة مع روسيا وبالجهود البريطانية للهيمنة على بلاد فارس؛ أما الجزء الغربي فكان متوقفًا على قدرة بريطانيا على السيطرة على مناطق معينة من الجزيرة العربية والخليج.

الصفحة الافتتاحية من تقريرٍ عن جدوى السكة الحديد العابرة لشبه الجزيرة العربية كتبه الرائد أ. ك.(؟) جريفين، نائب مدير السكك الحديدية في العراق، ٦ يناير ١٩٢٢. IOR/L/PS/10/1033، ص. ٣٨٥و
الصفحة الافتتاحية من تقريرٍ عن جدوى السكة الحديد العابرة لشبه الجزيرة العربية كتبه الرائد أ. ك.(؟) جريفين، نائب مدير السكك الحديدية في العراق، ٦ يناير ١٩٢٢. IOR/L/PS/10/1033، ص. ٣٨٥و

وتعود محاولات بريطانيا لتحقيق هذا الحلم إلى فترةٍ بعيدة، ففي خمسينيات القرن التاسع عشر سعت بريطانيا للحصول على إذن السلطات العثمانية لإنشاء سكةٍ حديدية على طول وادي نهر الفرات لتصل البحر المتوسط بالخليج. فإلى جانب مخاوفهم الاستراتيجية، رأى المسؤولون البريطانيون في المنطقة أرضيةً خصبةً للتطوير مع فرصٍ لتحقيق عائداتٍ اقتصاديةٍ عالية. ومع انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وتقسيم الشرق الأوسط بين بريطانيا وفرنسا بما يتناسب مع مصالحهما، انتقل مسار الخط المقترح جنوبًا ليظل ضمن المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية، منتهيًا في حيفا بدلًا من إسكندرونة.

لم يعد لهذه السكة الحديد عندها قيمةٌ تجاريةٌ تُذكر، ومع ذلك اعتُبر من الضروري إنشاء خطٍ عبر الصحراء من بغداد لتأمين خط أنابيب معتزم لضخ النفط من بلاد الرافدين ودعم مسارٍ جويٍ جديد من إنجلترا إلى الهند. إلا أن هذا الخط لم يرَ النور قط. حيث أجرت بريطانيا مسوحاتٍ في عشرينيات القرن العشرين وأُنشئ خط الأنابيب، ولكن تلاشى الحماس للسكة الحديد. فكما كان التطور التقني وراء صعود السكك الحديدية، أدى اختراع محرك الاحتراق الداخلي إلى كسادها. مثّل النقل الجوي والسيارات ذات المحرك وسائل أرخص وأسرع وأخف، مما جعلها محط اهتمام الإمبراطورية البريطانية الآيلة للزوال في محاولاتها لإظهار السلطة التي كانت تتمتع بها في الماضي.

محرك قطار بخاري يطفو على عوامة في نهر جمنة. Photo 1085/2 51. صور المكتبة البريطانية الإلكترونية
محرك قطار بخاري يطفو على عوامة في نهر جمنة. Photo 1085/2 51. صور المكتبة البريطانية الإلكترونية

أحدثت السكك الحديدية تحولاتٍ في مجالاتٍ كثيرة وعلى أصعدةٍ عديدة. كما أنها تلفت انتباهنا إلى علاقة التطور التقني بالسلطة. تدل الملفات العديدة المكرسة لموضوع السكك الحديدية ضمن سجلات مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. على تأثيرها في بناء الإمبراطوريات والعلاقات بين القوى العظمى في تلك الفترة. ارتبط إنشاء السكك الحديدية في أنحاء الإمبراطورية البريطانية وما وراءها بتساؤلاتٍ حول استخراج الموارد، والبنية التحتية للعنف، والاستراتيجية الاستعمارية، والاستثمارات الرأسمالية، والعمالة بالسخرة، والاختراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي. توجد الإجابات على بعض هذه التساؤلات في السجلات التي احتفظ بها مكتب الهند، والمتاحة الآن بعد رقمنتها على مكتبة قطر الرقمية.