عرض عام

وقع نزاع ديني في عام ١٩٣٠ بين سلطنة مسقط والتبشيريين الأمريكيين ليكشف النقاب عما هو أكثر من مجرد معركة على الأتباع.

في عام ١٩٣٠، واجه الرائد ترنشارد فاول، الوكيل السياسي مبعوث مدني رسمي من الامبراطورية البريطانية والقنصل في مسقط، "أزمة" انتابه بسببها "بعض القلق". فقد أشار في تقريره الإداري السنوي لذلك العام إلى "خلاف وقع بين التبشيريين ودولة مسقط" على إثر ادعاء بأن زوجين مسلمين قد اعتنقا المسيحية. وبعد وفاة الزوج، ظهرت تساؤلات حول مسألة دفنه. وبعد أداء طقوس المسلمين، أكد التبشيريون أنه إذا التزمت أرملته بفترة العِدَّة، سيكون ذلك بمثابة "ارتداد عن المسيحية". ويصف فاول النزاع بأنه "مسألة شائكة" يلزمها حل (IOR/L/PS/12/3719/1، ص. ٣٥٩ظ).

مسقط يظهر فيها على اليسار حصن جيواني، وعلى اليمين الوكالة السياسية البريطانية، فبراير ١٩٤٠. IOR/L/PS/12/3940، ص. ٢٥و
مسقط يظهر فيها على اليسار حصن جيواني، وعلى اليمين الوكالة السياسية البريطانية، فبراير ١٩٤٠. IOR/L/PS/12/3940، ص. ٢٥و

البعثة العربية الأمريكية

ذكر فاول في تقريره عددًا من التبشيريين الذين كانوا في السابق ضمن أعضاء البعثة العربية الأمريكية التابعة للكنيسة الإصلاحية (الهولندية) في أمريكا. وعملت البعثة على إنشاء عدد من المراكز في البصرة والبحرين ومسقط في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، وكان هدفها من ذلك نشر إنجيل يسوع المسيح في الجزيرة العربية، بالإضافة إلى التعريف بالطب والثقافة و"الحضارة" الغربية. ففي عام ١٩١٩، كتب القس جيريت ديرك فان بيورسم، أحد أعضاء بعثة مسقط، أنه "توجد حاجة كبيرة إلى التبشير في قرى عمان بقدر أي مكان آخر من العالم المحمدي [الإسلامي]... فباستثناء مسقط، لا يُرفع الصليب في أي مكان" (ص. ٦٨).

خلال وقت "الأزمة"، ضم طاقم بعثة مسقط كلًا من فان بيورسم والدكتور و. هـ. ستورم، وعائلتيهما، والدكتورة سارة هوسمون. كانت سارة هوسمون مُبشرة طبية من ولاية كنتاكي بالولايات المتحدة الأمريكية، وانضمت إلى بعثة البحرين عام ١٩١١. ودرست اللغة العربية وعُينت بعد ذلك في بعثة مسقط، حيث أسست وأدارت عيادة للنساء. وبحلول عام ١٩٣٠، استقر عمل البعثة الطبية ونظم أعضاؤها جولات على طول المدن الساحلية والداخلية لعلاج الأشخاص من كافة الطبقات، مع محاولة تنصيرهم كذلك.

البعثة العربية مع أعضاء مجلس إدارة البعثات الخارجية في البحرين في نوفمبر ١٩٢٩. تجلس هوسمون في الصف الثاني، وهي الثانية من جهة اليمين. الصورة من قسم الأرشيفات الهولندية المشتركة ومجموعة المدرسة اللاهوتية الغربية
البعثة العربية مع أعضاء مجلس إدارة البعثات الخارجية في البحرين في نوفمبر ١٩٢٩. تجلس هوسمون في الصف الثاني، وهي الثانية من جهة اليمين. الصورة من قسم الأرشيفات الهولندية المشتركة ومجموعة المدرسة اللاهوتية الغربية

مشكلة قد يكون لها عواقب خطيرة

كانت البعثة مُفيدة من ناحية العلاجات الطبية التي تُوفرها، إلا أنها أثقلت كاهل القنصل والوكيل السياسي البريطاني على الدوام، بمهام إضافية مزعجة. وقد أغلقت الولايات المتحدة قنصليتها في عام ١٩١٥، وكلفت الوكيل السياسي مبعوث مدني رسمي من الامبراطورية البريطانية برعاية المصالح الأمريكية في مسقط. نجمت التوترات عادة عن المخاوف الأمنية، عندما نظّم بعض التبشيريين رحلات إلى المناطق الداخلية وزاروا أماكن خارج نطاق حكم السلطنة والتي لا يُمكن ضمان سلامتهم فيها. وفي ديسمبر ١٩٣٠، نشب نزاع ديني بين السلطنة والتبشيريين الأمريكيين بعد وفاة مراش بن بلال، الذي زُعم –أنه اعتنقَ المسيحية في مسقط قبل عشر سنوات. فتواصل كل طرف من طرفي النزاع مع فاول ليكون ممثلًا له، مما حتم عليه التصرف بدبلوماسية وحذر.

أرسل فاول رسالة إلى المقيم البريطاني في الخليج العربي (كُتبت في وقت لاحق بتاريخ ٢٠ يناير ١٩٣١) ذكر فيها أن شقيق زوج الأرملة مريم قد أصر على التزامها بفترة العدة المُقدرة بأربعة أشهر وعشرة أيام في منزله. وخلال هذه الفترة، كانت مريم قد ذهبت إلى منزل القس فان بيورسم، الذي ادعى هو وزوجته جوزيفين أنه إذا عادت إلى منزل شقيق زوجها فستصبح مرتدة عن المسيحية. أضاف فاول أن شقيق زوجها يُعتبر شخصًا "متعصبًا وحاد الطباع إلى حد ما، بحسب كافة التقارير'' وأنه "بالتأكيد سوف يُسيء معاملتها، بل وربما يقتلها'' (IOR/R/15/6/145، ص. ٨٢و).

وجهة نظر الطرفين

أرسلت جوزفين إلى أمير حكومة مسقط، السيد سعيد بن تيمور بن فيصل، رسالة تجزم فيها أن مريم قررت منذ فترة اتباع دين زوجها. وتابعت رسالتها موضحة أن مريم قد تم تعميدها في البحرين، وتتمنى الآن "أن تكون حرة لتوفر لقمة عيشها". وتُناشد الأمير بمنح مريم "حريتها في اعتناق الدين الذي تختاره وفي كسب عيشها بالطريقة التي تودها".

مقتطف من رسالة جوزفين، زوجة فان بيورسم، إلى السيد سعيد بن تيمور بن فيصل، ١٥ ديسمبر ١٩٣٠. IOR/R/15/6/145، ص. ٧٠و
مقتطف من رسالة جوزفين، زوجة فان بيورسم، إلى السيد سعيد بن تيمور بن فيصل، ١٥ ديسمبر ١٩٣٠. IOR/R/15/6/145، ص. ٧٠و

رد مجلس وزراء السلطان على هذا الرسالة بالتشديد على وجوب مغادرة مريم لمنزل التبشيريين والالتزام بفترة العدة، مُشيرًا إلى أنها ليس لها اختيار في هذا الشأن وأولياء أمورها على قيد الحياة. وأضاف أن مُخالفة ذلك سيُشجع "الجهال"، حيث يعتبرون تصرفات التبشيريين تدخلًا في شؤون الدولة. سجل فاول اقتراحهم المقابل بأن تقضي مريم فترة العدة في منزل حماتها، وأنهم سيضمنون سلامتها من أذى شقيق زوجها، فضلاً عن تحمل نفقاتها أثناء عدم قدرتها على العمل خلال فترة الحداد. أصدر المجلس توجيهات إلى فاول بمساعدة مريم في مغادرة منزل التبشيريين، ورفض مقابلة فان بيورسم وستورم شخصيًا، معتبرًا التواصل من خلال فاول يفي بالغرض.

مقتطف من رسالة المجلس باللغة العربية، توضح وجهة نظره بخصوص حالة مريم والإجراءات الواجب على فاول اتباعها لحل المسألة، ٢٢ رجب ١٣٤٩ هـ/١٤ ديسمبر ١٩٣٠ [حسبما ورد]. IOR/R/15/6/145، ص. ٧٧و
مقتطف من رسالة المجلس باللغة العربية، توضح وجهة نظره بخصوص حالة مريم والإجراءات الواجب على فاول اتباعها لحل المسألة، ٢٢ رجب ١٣٤٩ هـ/١٤ ديسمبر ١٩٣٠ [حسبما ورد]. IOR/R/15/6/145، ص. ٧٧و

"الوقوف على الحياد"

قدم فاول تقريرًا مكونًا من أربع صفحات يتناول هذه الأزمة، ويصف فيه نفسه بأنه "على الحياد"، وذلك بعد مقابلة كل من "التبشيريين الغاضبين والمجلس المُستاء" على مدار عدة أيام (IOR/R/15/6/145، ص. ٨٤و). فهو يتفهم وجهة نظر الطرفين ويتعاطف معهما، ولا يُريد الإساءة لأي منهما. وأوضح للتبشيريين أنه ليس لديه سلطة قضائية على رعايا مسقط. كما أعرب للمجلس عن أسفه لأنه لا يستطيع إجبار الأمريكيين على تسليم الأرملة. ومع هذا، وبأسلوب دبلوماسي صادق، أعاد إلى ذاكرة السيد سعيد مفاوضات مسقط الجارية بشأن المعاهدة التجارية مع الولايات المتحدة؛ فبالرغم من أن المجلس بمقدوره في نهاية الأمر فعل ما يحلو له تجاه أحد رعايا مسقط (مسيحيًا كان أم غير ذلك)، فإنه يشير إلى أنه قد يكون من غير المستحسن افتعال أزمة بسبب هذا الموضوع. ويُنهي كلامه بنصيحة للمجلس بأن "غض الطرف هو التصرف الأنسب" (IOR/R/15/6/145، ص. ٨٥و). ورغم أن المجلس "لم يغض الطرف" تمامًا، فقد حسم الأمر في نهاية المطاف بشكل سري بالسماح لمريم بالانعزال في منزل الدكتورة سارة هوسمون.

التوترات الأنجلو-أمريكية

أعرب فاول عن شعوره بالارتياح بعدما حُلت المشكلة أخيرًا، إلا أنه لا يستطيع مقاومة الاستهزاء بهؤلاء "الأصدقاء" الأمريكيين. فقد أشار في تقريره السنوي إلى أن المسألة قد حُسمَت وديًا "بسبب الموقف الحكيم الذي تبناه السيد سعيد في المقام الأول" (IOR/L/PS/12/3719/1، ص. ٣٥٩ظ). لكنه تحدث بصراحة أكثر بعض الشيء في رسالته إلى المقيم السياسي الممثل الرئيسي للمقيمية البريطانية في الخليج وهي الذراع الرسمي للامبراطورية البريطانية من ١٧٦٣ إلى ١٩٧١ حيث ذكر أن التبشيريين الأمريكيين يميلون إلى التدخل "بالنيابة عمن يُنَصّرونهم، (أو يزعمون تنصّرهم)، ويعتبرونهم قد حصلوا بطريقة غامضة على حقوق استقلال خاصة". وبحسب ادعائه، فإن ذلك هو السبب الرئيسي "لأي شعور أو ارتياب مناهض لأمريكا قد يكون موجودًا في مسقط" (IOR/R/15/6/145، ص. ٨٥و).

صورة للسير ترنشارد كرافن ويليام فاول، بواسطة والتر ستونمان، أكتوبر ١٩٣٧. © معرض اللوحات القومي، لندن، NPG x167632. مُستخدمة وفق شروط رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC
صورة للسير ترنشارد كرافن ويليام فاول، بواسطة والتر ستونمان، أكتوبر ١٩٣٧. © معرض اللوحات القومي، لندن، NPG x167632. مُستخدمة وفق شروط رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC

ينقل فاول هنا شكوك السكان المحليين، الذين ربطوا التبشيريين بالإمبريالية الغربية الآخذة في الاتساع، مما أسهم في جعل الوجود البريطاني غير مرغوب فيه إلى حد ما. تُشير تعليقات فاول أيضًا إلى مخاوف بريطانيا الشديدة حيال "التدخل" الأمريكي في الخليج، وهي منطقة يزداد الاهتمام بها كمصدر لاحتياطيات نفط ضخمة وحيوية. وعلى مدار العقدين التاليين، اتسمت العلاقات الأنجلو-أمريكية في الخليج بالتنافس على النفط، وليس على الأتباع من السكان العرب.